للأعلى
06-يونيو-2013

نزاهة العمل الخيري

خاطرة الخميس دعوة لترك الاستغلال السياسي للعمل الخيري رعاية لأمر الله وصيانة لكرامة الفقير والمنكوب

الحمد لله

دُعى علماء المسلمين ودعاتهم الذين أطلقوا مبادرة «كلمة سواء» إلى مؤتمر فى جامعة «ييل» الشهيرة للحوار مع المسيحيين، وكان غالبية الحضور المسيحى من طائفة «البروتستانت» مع وجود بعض الأرثوذكس والكاثوليك، وكان حواراً موفقاً أسفر عن نتائج جيدة، منها تعرّف الأطراف المتحاورة على رؤى بعضهم البعض، ومن ذلك تعرُّفُنا عن قرب على نماذج مسيحية راقية فى إيمانها بالتعايش الحقيقى، كالبروفيسور ميروسلاف فولف، مدير مركز الدين والثقافة بجامعة ييل، صاحب الدعوة إلى المؤتمر، ومن هذه النتائج الاعتراف البروتستانتى التاريخى بأن الإسلام دين سماوى.

وعلى هامش المؤتمر دُعينا إلى اجتماع مغلق حضره شخصيات من أهم ممثلى الكنائس فى الولايات المتحدة ومنهم رئيس اتحاد الكنائس الإنجيلية، وطرح أحد أساتذة اللاهوت سؤالاً عن سبب عدم السماح للمبشرين الإنجيليين بالعمل فى البلاد الإسلامية، فأجابه مطران أرثوذكسى من القدس بأنّ كثيراً من المبشرين الإنجيليين يعملون وفق توجّهات سياسية تضرّ بواقعنا، وضرب له مثلاً بالقدس الشريف وما يجرى فيه من عملٍ على تحويل المسيحيين المقدسيين من الطائفة الأرثوذكسية إلى الطائفة الإنجيلية ومن ثم تشجيعهم على الهجرة إلى الغرب مما اعتبره جزءاً من عملية تهويد القدس.

وكان تعليق الفقير إلى الله أن المشكلة تتعلق أيضاً باستغلال الكثير من الـمُنَصِّرين الإنجيليين القادمين من الغرب للأوضاع المأساوية فى بلاد المسلمين على نحو غير أخلاقى، وضربت لهم أمثلة حقيقية من الواقع.

فأجاب قسٌّ وقور قد جاوز الستين من عمره هو رئيس «الكويكرز» البروتستانت بصوت متهدج صادق: إن هذه التصرفات تعتبر خيانة للسيد المسيح وأنا أعتذر إليكم عنها ولا أقبلها.. فشكرته وقلت له: إن خطابك هذا يُذكّرنى بقوله تعالى: (ولتجدنّ أقرَبَهم مودَّةً للّذين آمنُوا الّذين قالوا إنّا نصارى ذلك بأنّ مِنهم قِسِّيسين ورُهباناً وأنَّهم لا يستكْبِرون).

وتذكُّر هذا الموقف يعيدنا إلى واقع أليم فى منطقتنا يتّصل بما يشوب الكثير من الأعمال الخيرية مِن سوء الاستغلال السياسى والفكرى لمآسى الناس من كوارث وفقر ومرض وجهل، فقد واجهتنا مواقف مخزية أثناء العمل الإغاثى لمتضررى السيول فى حضرموت قبل نحو خمسة أعوام كمحاولة بعض المسئولين الاستيلاء على المعونات مما اضطرنا إلى مخاطبة الرئيس شخصياً ليوقف عبثهم، لكن الأسوأ من ذلك هو محاولة بعض السياسيين من المعارضة استثمار الكوارث لصالح حملاتهم الانتخابية التى كان موعدها وشيكاً، حتى وصل إلى حد اقتحام أحد نوّابهم لطائرة عمودية وفّرتها الدولة للوصول إلى القُرى المحاصرة بالمياه وتوجيهها إلى قرية غير محاصرة سبق أن وصلتها المعونات عبر سيارات الدفع الرباعى، وعند البحث عن وضع هذه القرية تبيّن أنها من القُرى التى صوّت غالبية سُكّانها لصالح حزب هذا النائب المُعارض!

وفى موقف آخر بينما كانت إحدى ناقلات الأغذية تستعد للتوجه إلى القرى المنكوبة فوجئ الناس ببعض أعضاء جمعية خيرية يطابق اسمها اسم الحزب السياسى نفسه يحملون لافتة كتب عليها «معونات لأهلنا المتضررين فى حضرموت» مع كتابة اسم الجمعية المذكورة ليلتقطوا صوراً أمام ناقلة المعونات التى ليس لهم فيها ناقة ولا جمل! مما أدى إلى غضب الأهالى من صنيعهم وإبعادهم عن الناقلة.

وعندما تبرع الشيخ خليفة بن زايد ببناء مئات المساكن للمتضررين واجهتنا مشكلة محاولة المجالس المحلية المنتخبة، التى نجح فيها الحزب المعارض نفسه، لفرض قوائم غير دقيقة للمتضررين شملت الموالين لهم ممن لم تتضرر بيوتهم، وعندما أصرّت لجنة تحديد المتضررين على عدم اعتماد هذه القوائم شُنّت حرب شعواء لعرقلة هذا المشروع من قبَل الحكم المحلى ما زلنا إلى الآن نعانى من آثارها السلبية على المشروع بالرغم من مُضيّه قُدُماً، ثم أعقب ذلك سعى حثيث لتهييج المتضررين على هذا المشروع ومحاولة تشويه المعونة الإماراتية التى تميّزت برفضها الاستثمار السياسى من قبَل الحكومة أو المعارضة وأصرّت على أن تكون خيرية لا تشوبها شائبة السياسة.

هذه الوقائع تستدعى أمثالها فى مختلف الدول ومن مختلف الأطراف السياسية، فاستغلال الكوارث والفقر والمرض لصالح التنافس السياسى سلوك غير أخلاقى يرفضه الشرع وترفضه المروءة، ومن كانت لديه همّة صادقة ورؤية واضحة لمعالجة معاناة الشعوب عبر مشروعه السياسى فهو بحاجة إلى وضع استراتيجية مُحكمة وخطة مدروسة تتجاوز الشعارات الانتخابية إلى امتلاك آليات تغيير الواقع، وليس استغلال عَوَز الناس.

لهذا أود أن تكون لدينا تشريعات قانونية تمنع استغلال العمل الخيرى فى التنافس السياسى وتُجرّم وضع الشعارات الحزبية على المعونات المقدمة للفقراء.

كما أدعو منظمات حقوق الإنسان إلى العمل على إدراج هذا الالتزام ضمن الاتفاقيات التى توقّع عليها الدول فى هيئة الأمم المتحدة وضمن شروط المعونات المقدمة إلى الأنظمة.

إنّ هذا المعنى متصل بحفظ كرامة الإنسان الفقير والمريض من أن يكون سلعة رخيصة فى متجر التنافس السياسى، وهذا من أوليّات حقوقه.

قال تعالى: (الّذين يُنفِقونَ أموالَهم فى سبيلِ اللهِ ثمَّ لا يُتْبِعونَ ما أنفَقُوا مَنًّا ولا أذى لهم أجرُهم عندَ ربِّهم ولا خوفٌ عليهِم ولا هُم يَحزنون * قَوْلٌ معروفٌ ومغفرةٌ خيرٌ مِن صدقةٍ يَتْبَعُها أذى واللهُ غنىٌّ حليم * يا أيُّها الَّذينَ آمنوا لا تُبطِلوا صدَقاتِكم بالمَنِّ والأذى كالَّذى يُنفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ ولا يؤمنُ باللهِ واليومِ الآخِرِ فمَثَلُهُ كمَثَلِ صَفْوانٍ عليهِ تُرابٌ فأصابَهُ وابلٌ فتركَهُ صَلْداً لا يقدِرونَ على شىءٍ مِمَّا كسَبوا واللهُ لا يَهدى القومَ الكافرين).

ونقل الحافظ ابن جرير فى تفسيره أن ترك السلام على المتصدَّق عليه أفضل من السلام إذا كانت نفسه سوف تستشعر الحرج من المتصدِّق.

وقال عزّ وجلّ: (ويُطعِمُونَ الطَّعامَ على حُبِّهِ مِسكيناً ويَتيماً وأسيراً * إنَّما نُطعِمُكم لوجهِ اللهِ لا نُريدُ مِنْكم جزاءً ولا شُكُوراً).

قال الشيخ تقى الدين ابن تيمية: من طلب من الفقراء الدعاء أو الثناء خرج من هذه الآية.

ولا ينبغى أن يُغالط أحد نفسه بالاستشهاد الخاطئ بقوله تعالى: (إنْ تُبْدُوا الصدقاتِ فَنِعِمَّا هى وإنْ تُخفوها وتؤتوها الفقراءَ فهو خيرٌ لَكُم)، لأن الآية الكريمة تُجيز الإعلان عن الصدقة فى سياق الحث على فعل الخير وليس فى سياق توظيفها سياسياً أو فكرياً لصالح المتصدِّق أو مشروعه.

وقال سيدنا محمّد صلى الله عليه وآله وسلم فى ذكره للسبعة الذين يظلهم الله تحت ظل عرشه: «رجلٌ تصدَّق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه».

وعن عائشة رضى الله عنها قالت: أُهديتْ لرسول الله صلى الله عليه وسلم شاةٌ، قال: اقْسِمِيها، فكانت عائشةُ إذا رجعتِ الخادمُ تقولُ: ما قالُوا؟ تقولُ الخادمُ: قالوا: باركَ الله فيكم، فتقول عائشة: وفيهم بارك الله، نردُّ عليهم مثلَ ما قالوا، ويَبقى أجرُنا لنا. أخرجه النسائى فى سننه.

فكان أشياخنا رحمهم الله يقولون لنا: إذا ساعدتم محتاجاً فلا تطلبوا منه الدعاء لكم حال مساعدته لأن فى ذلك شبهة استبطان النفس للشعور بالتفضُّل عليه وطلب المقابِل لهذا الإحسان، وهذا قد يجرح نفس المحتاج ويقوّى وهم المنّة فى نفوسكم.

فكيف إذا أتى الإعلان عن المساعدات فى سياق الترويج السياسى أو الفكرى؟

وأخيراً..

إن المجتمع الذى لا يصون كرامة الفقير لا يمكن أن ينال حقيقة الأمن ولا الطمأنينة، ولا يأتمنه الله على رفع راية الحق، ولا يفوز بحقيقة الارتقاء الحضارى وإن حقق قفزات فى التقدم المادى.

اللهم وسّع مشاهدنا وصفِّ مواردنا، وارزقنا من الإخلاص ما نبلغ به مراتب الصدّيقين، ومن البصيرة ما نسلك به مسالك المحبوبين، يا أرحم الراحمين.

- لإبداء رأيك حول الخاطرة في موقع الصحيفة

© 2014 TABAH WEBSITE. All rights reserved - Designed by netaq e-solutions