للأعلى
28-فبراير-2013

«نحن» والشباب

الحمد لله..

شاهدت مقطعاً مليئاً بالإعجاز لفتى سورى من الريف.. يصعُب أن نُسمّيه طفلاً بالرغم من صغر سنه..

الفتى كان يتحدث صباحاً بعد ليلة قصفَ فيها الطغاة المجرمون قريتَه بصاروخ «سكود» أتى على عموم بيوت القرية..

وكان حجم المأساة كارثياً؛ فقد استُشهد أربعون إنساناً تقريباً يمثلون عموم أقاربه من الرجال والنساء والأطفال: الإخوة والأخوات والأعمام والعمات والأخوال والخالات وأبناؤهم والبنات..

وبالرغم من فظاعة المأساة فإن الـمُشاهد للمقطع لا يملك إلا أن يقول: الله أكبر!

نعم.. فهذا الفتى وهو يصف مشهد جدته التى تمزقت أشلاؤها وخالته التى طار جسدها فى الهواء وابن عمه الذى استُشهد فى حجرته وهو ساجد وإخوته الذين قضوا نياماً.. يستمر فى وصف المأساة مُغالِباً عبرته التى تُطل منها طفولته المكلومة الظاهرة فى نظرات عينيه.. لكن سرعان ما تلمع فى هاتين العينين بارقة الرجولة والشجاعة، وكأنه يخاطب أبا فراس الحمدانى بأنه الفارس المستحق بجدارة لقوله:

إذا الليل أضوانى بسطت يد الهوى

وأذللت دمعاً من خلائقه الكبرُ

تكاد تضىء الـنار بـيـن جوانحى

إذا هى أذكتها الصبابة والفكرُ

فتراه بالرغم من عِظَمِ الفاجعة متماسكاً يتكلم بقوة تتجاوز الصراخ والتهديد إلى قوة البيان الصادع بالحق مع سكينة الثبات وفتوة الألم ليوجّه خطابه إلى الطغاة متسائلاً وتعابير وجهه أبلغ من أى خطاب:

«بس بدى أفهم ليش عم يرمينا ويضربنا؟».

ويُغالب عبرته بنظرة قوية: «يعنى حكم القوى على الضعيف؟ بس هيك؟».

وترى معالم الرجولة فى وجهه البرىء الذى يلتف الشاش على رأسه مضمداً جرحه وهو يقول:

«أنا كنت متصَوِّب وأغمى على.. وأبوى حساس كتير.. صاح: يا نايف.. قلتله ما فينى شىء أنا»..

ويصل الإعجاز إلى مستوى لا يوصف وهو يقول:

«طلّعنا ولاد عمى.. شباب، واحد كان عم يصلى.. ساجد.. ما أحلاهم.. ريحة المسك بتطلع منهم.. وهم عم يضحكوا».

هذه صورة أليمة بالغة القسوة لصلابة جيل يتحدى نوعاً من الظلم يصعب التعبير عن فظاعة بطشه..

وهذا لونٌ آخر من ألوان التحدى بطله شاب من شباب مدينة عدن فى جنوب اليمن  قد سئم السكوت عن ظلمٍ لم يشهد من ألوان الحياة سوى لونه القاتم منذ ولادته.. يكتب مخاطباً من يحاولون إعطاء قتل زميله غطاء الشريعة وأنه حكم الله تعالى على البغاة المخربين:

«لا تتمسّحوا بالشرع، سيدنا محمد أطهر من ذقونكم المصبوغة بالدم».

ولون آخر من ألوان التحدى بطله شاب من مصر لم يبلغ العشرين يصرخ بحرقة فى وجوه من يعتبرهم سارقى أحلام ثورته:

«مش هسيب دم جيكا يروح هدر.. ثم يهتف: يا نجيب حقهم، يا نموت زيهم».

وبالرغم من اختلاف درجات صور المأساة بين النماذج الثلاثة فإن الرابط بينها واحد، هو حقيقة معاناة الجيل.

وبعيداً عن مناقشة الصواب والخطأ فى أفكار هؤلاء الشباب وتصرفاتهم، ثمة ما هو أعمق من ذلك.. ألا وهو أن هذا الجيل قد سَئِم وضجر وملّ من تحمل أثقال عقودٍ إن لم تكن قروناً مضت كنا نحن جزءاً من امتدادها.. بل وإفرازاتها.. وقرّر ألا يكون مثلنا.. ورفض أن يكون واقعه شبيهاً بواقعنا..

وهو لا يرى فينا قدوة يمكن أن يستلهم منها معالم مستقبله.. هذه حقيقة علينا أن نفقهها جيداً قبل أن نخاطبه بكلمة واحدة..

ونون الضمير هذه تعود على مختلف أطيافنا، السياسية والاقتصادية والإعلامية والثقافية والاجتماعية، بل على صعيد الخطاب الدينى أيضاً!

وقبل أن ننتقد تصرفات هذا الجيل، ونشكو من نزقه وقلة أدبه فى ألفاظه وتصرفاته وعدم احترامه للكبار وفقده للهوية وتشتته بين أفكار الاشتراكية والليبرالية.. أو حتى فكر القاعدة واتخاذه لرموز هذه الانتماءات قدوة، وتعليقه لصور جيفارا أو حتى أسامة والظواهرى..

وقبل أن نسخر من رقصه على طريقة مايكل جاكسون وحفظه لأغانى مادونا، أو ترديده لأناشيد الجهاد فى سياق الاحتكاك السياسى وركضه فى تمارين الميليشيات التنظيمية..

وقبل أن نزدرى ارتداء فتيانه للسلاسل ووشم أجسادهم وتعرّى فتياته واختلاط أولادهم ببناتهم وطبيعة العلاقة بينهم وتناولهم المُسكرات والمخدرات وتعاملهم بالمولوتوف والحجارة، أو ارتداء فتيانه لملابس الأفغان وإطلاقهم لحاهم دون تهذيب وحملهم السيوف والسواطير والخرطوش وانتشار النقاب بين فتياته..

وقبل أن ننبزه بألقاب «السيس والممسوخ والشاذ» أو «الخروف والمؤدلج والإرهابى»..

قبل ذلك كله علينا أن نتساءل بشجاعة نقد الذات:

ماذا قدمنا لهم من صلة بثقافة يحترمونها، أو تصرفات تجعلهم يثقون بنا، أو رؤية ناضجة لمشروع حقيقى نشاركهم صياغته ونُسلّمهم رايته؟

لهذا فنحن بحاجة أولاً إلى إعادة النظر فيما تحمله عقولنا من أفكار، وما تحمله قلوبنا من معان..

ثم نحتاج عبر ذلك إلى فهم هؤلاء الشباب وتفهّم قضيتهم، وهى بالرغم من تضاد إفرازاتها واحدة..

قضيتهم هى البحث عن الذات من خلال الإصرار على الأمل..

ومن كانت هذه قضيته فلن يستطيع أحد إيقافه ولا الاستمرار فى استتباعه أو استغلاله..

فإما أن نسهم فى خدمة قضيتهم متجردين عن حظوظ أنفسنا وأطماع تطلعاتنا، وإما فلنتحمل نتائج تقصيرنا فى حقهم، ونكفّ أذانا عنهم..

وأختم الخاطرة بموقف من الهدى المحمدى فى فهم التعامل مع الشباب مهما كانت تصرفاتهم لعلّنا نفقه منه شيئاً:

أذّن مؤذن النبى بالقرب من مكة بعد فتحها وكان عشرة من شباب المنطقة يسمعون فأخذوا يُقلّدون الأذان بسخرية واستهزاء، فناداهم النبى وطلب منهم أن يُسمِعوه الأذان، فلما أعجبه حُسن صوت أحدهم قال له: «تعالَ».. وأجلسه بين يديه ومسح على رأسه وباركه ولقنه كلمات الأذان صحيحة، وقال له: «اذهب فأذّن عند البيت الحرام»، وجعله مؤذناً لمكة المكرمة..

هذا الشاب هو أبومحذورة الجمحى، رضى الله عنه.

وذكر عند حكايته للموقف أنه كان قبل إسلامه «يكره» النبى، لكن قلبه بعد هذا الموقف امتلأ محبة للنبى، صلى الله عليه وآله وسلم.

اللهم ألهمنا حسن الفهم وأخرجنا من دائرة الوهم.. ووفق شبابنا لما تحبه وترضاه.. ومُنّ علينا بنظرة منك تأذن فيها بالفرج يا رؤوفا بالعباد.

© 2014 TABAH WEBSITE. All rights reserved - Designed by netaq e-solutions