للأعلى
13-ديسمبر-2012

ربنا لا تجعلنا فتنة للذين.. «آمنوا»

 

الحمد لله.. وأخيراً فى عيد الأضحى المبارك يسَّر الله أخذ الأبناء إلى جزيرة من جُزر إمارة أبوظبى لأقضى معهم يومين لم أتمكن من اقتطاعهما منذ أكثر من عام.

وفى أثناء حوار دار بيننا داهمتنى ابنتى خديجة، التى لم تتجاوز الاثنى عشر ربيعاً بسؤال:

«بابا، ليش (لماذا) قال الشيخ (فلان) عنك (كذا وكذا)؟ وهل حدث هذا الموقف بينك وبينه؟».

صُعقت لسؤالها المفاجئ، وحِرت فى أمر الجواب.. وذلك لأنه قد ثَقُل علىَّ أن أخبرها بحقيقة أن «الدكتور الداعية» لم يكن صادقاً فيما أخبر به.. وأننى زُرته فى بيته معتبراً أن خلافنا لا يعدو كونه خلافاً فى أمر اجتهادى.. وأننا -بخلاف ما ادّعاه- لم نتحدث حول الخلافات الشرعية.. وأنه لم يدعُنى إلى تصحيح معتقدى كما زعم.. بل كان حديثاً ودياً حول هموم الدعوة.. شكا فيه «الدكتور» من حسد أقرانه وضيق أفق خِلّانه.. حتى لفّقوا له أقوالاً لم تصدر عنه، مما اضطره إلى أن يُلح على مفتى بلاده أن يسمع عبر الهاتف تسجيل محاضرته التى اتهموه فيها بما لم يقل.

كيف أُخبرها بأن ما كتبه «الدكتور» فى هجومه على أبيها كان عارياً عن الصحة، وأن أحد الحاضرَين للزيارة قد عرض على أبيها أن يشهد أمام الملأ على عدم صدق «الدكتور» فيما قاله.. فصعب على أبيها أن يكون جزءاً من هذه المسرحية الهزلية؟

اكتفيت بالإجابة بأن فضيلة «الدكتور» ربما نسى أو اختلط عليه الأمر.. وأن إجلال أهل الدين واحترامهم لا يجعلانهم معصومين عن الخطأ؛ فهم بشر..

وحاولت كتم عَبْرة خانقة، وإخفاء دمعة حارقة.. حتى لا أشوش على طُهر محبة الفتاة لدينها.. وبراءة نظرتها إلى مبلغيه.. ولكن..

هل تُرانى نجحت؟

وتمضى الأيام.. وتتوالى قصص وأحداث..

فنرى دعاة بارزين يفترض بدعوتهم وخطابهم أن يكونا برداً وسلاماً على الناس.. وهدياً ورحمة لهم.. وأخذاً بأيديهم إلى دروب الهدى والخير وحسن الأخلاق..

فإذا بهم يتقلّبون بين موقف ونقيضه فى غياهب السياسة.. وفقاً لما يرونه نصرة للدين..

فتارة يصفون موقفاً سياسياً لقومٍ بالرشد والنضال الحقوقى الإنسانى والدعوة والجهاد بكلمة الحق عند سلطان جائر..

وتارة يصفون الموقف ذاته من قومٍ آخرين بالخيانة العظمى وإثارة الفتن والبغى والخروج على ولى الأمر..

وأقف متأملاً أمام مُعضلة أخلاقية متصلة بازدواجية المواقف.. وإقحامها على الخطاب الإسلامى وأحكام الشرع الشريف..

وأتساءَل والحزن يملأ القلب: كيف للمؤتمن على تبليغ رسالة الرحمة أن يكيل بمكيالين مختلفين لِمَكيل واحد؟

فأجدنى أسأل الله تعالى أن يلطف بمن يتلقى مثل هذا الخطاب.. وأن يحميه من تبعاته لطفاً يليق بواسع كرمه وعظيم رحمته بخلقه..

ومن المؤسف حقاً أن تجد من يقتحم ساحة كبار علماء الأزهر الشريف، بمن فيهم فضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر وفضيلة مفتى الديار المصرية.. لا بالنقد الموضوعى الذى يُشعر المستمع بوجود من ينصح أو يأمر بمعروف وينهى عن منكر.. بل بالتطاول والاتهام ببذىء ألفاظ لا يليق بأن ينطق بها إنسان سوىّ.. فضلا عن أن تصدر من أفواهٍ ينتسب أصحابها إلى الدعوة إلى الله أو يتصدّرون لتوجيه الناس بشرع الله..

ثم تجد أحداثا من الشباب يتبعونهم ويهتفون بحماسة صادقة مع غيبوبة للبصيرة.. تبعاً لما قيل لهم وما مُلئت به صدورهم.. متوهمين أنهم بذلك ينصرون دين الله ويدافعون عن شريعته السمحة!

وحين يجدّ الجدّ لا يجد من تصدروا هذا التطاول إلا عتبات الأزهر الشريف ليلوذوا به، فلا يمكن للفرقاء أن يجتمعوا إلا فى ظلال دوحة مصداقيته وتحت كنف مشيخته..

فنسمع حينها من عبارات الثناء على مشيخة الأزهر ما يُشبه الغزل.. ومن المديح ما يصل إلى حد التمجيد..

والحمد لله الذى أرانا عودة كثير منهم إلى جادة الصواب.. والمرجو من الله أن يكون ذلك خالصاً لوجهه الكريم لا لغرض آخر اقتضته حاجة فى النفس.. سرعان ما تتغير عند وجود موقف يُخالف ما يرونه صوابا..

ومن باب حسن الظن نستبشر بأن الله فتح على بصائرهم فأدركوا الحق.. ونلتمس منهم.. رحمة بالناس.. أن يُنبّهوا أتباعهم ويُفهموهم أنّ موقفهم هذا هو الموقف الحقيقى.. وأنّ ما كان منهم من سابق الإساءة إنما كان سوء فهم أو خطأ يستغفرون الله منه..

فيا سادتى وإخوتى الدعاة وخَدم الشريعة السمحة.. حنانيكم.. رفقاً بجيلٍ يتشبث بما بقى له من إيمان وثقة فى الدين بأناملَ تكسّرت بمطارق أهوائنا.. ونزفت بسكاكين تلوُّنِنا..

رفقاً بجيلٍ يستغيث ما بقى من النور فى قلوب شبابه.. من هول جراحه.. صارخاً فى وجوهنا أن اتقوا الله فينا..

إن زلازل التناقضات وسيول الخصومات وبراكين الانفعالات التى نُحيطهم بها سَلبتْ فريقاً منهم دينه، ويكاد فريق يسقط فى هذه الهاوية، لولا عناية الله.

سادتى وإخوتى الدعاة..

لست هنا منتصراً لموقف سياسى بعينه.. ولا لترجيح مسلك من مسالكه على الآخر.. فلست من فرسان السياسة.. ولا أدّعى ذلك ولا أتوق إليه..

غير أن امتطاء السياسةِ لصهوة شعاراتِ الدين.. لِتُحطّمَ بسنابكها جواهر القيم والأخلاق التى جاء النبى -صلى الله عليه وآله وسلم- ليُتمّم مكارمها لهو أمرٌ خطره عظيم وعواقبه وخيمة.

فاللهَ اللهَ فى نصرة دين الله بأن يُصان من أغراض الأطماع الشخصية.. وتقلبات النزوات السياسية..

سادتى وإخوتى الدعاة..

ما أريد وقيعة بكم.. ولا إثارة لمشاعركم.. ولا مساساً بكرامتكم.. لكنه ثقل المسئولية..

فساعة الوقوف بين يدى الله تعالى جدُّ عظيمة.. يرتجف لها الفؤاد.. وترتعد من هولها الفرائص..

وإن لمعةً فى أعين الشباب تلوح بين ركام الشتات.. توشك أن تصرخ فى وجوهنا قائلة: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ».

سادتى وإخوتى الدعاة..

كان أسلافنا يدعون الله تعالى وتلهج ألسنتهم بما فى كتابه العزيز: «رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لًّلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ».

فهل صرنا فى زمن نحتاج فيه إلى أن ندعو قائلين: ربنا لا تجعلنا فتنة للذين آمنوا؟

لقد بتُّ خائفا من أن يؤاخذنا الله تعالى بما حذرنا منه فى قوله: «إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ».

أحبتى من أهل الدعوة إلى الخير..

شباب الأمة أمانة.. والأمانة ثقيلة.. فلا تضيّعوها بخطاب عليل.. تعوزه الدراية والرحمة.. والروية والحكمة.. وحسن العبارة.. وجميل المعنى.. وذوق المحبة.. ونور التقوى..

الموافق لكم أخ.. والمخالف لكم أخ أيضاً.. فلا تهدروا حق الأخوة بين الموافقة والمخالفة..

اللهم تُب علينا توبة نصوحاً تُطهرنا بها جسماً وقلباً وروحاً، وانزع ما فى الصدور من غل، واجمع قلوبنا على محبتك، وألهمنا التوفيق والسداد والصواب، يا أكرم الأكرمين يا عزيز يا وهَّاب.

© 2014 TABAH WEBSITE. All rights reserved - Designed by netaq e-solutions