للأعلى
02-نوفمبر-2015

تهمة الشافعي!

الحمد لله

من المعلوم أنَّ الإمام محمد بن إدريس الشافعي من أعظم علماء الأمة وهو أحد الأئمة الأربعة الذين تشكّلت من اجتهاداتهم مذاهب أهل السنة.

ولكن الحسد، كما هي العادة، لم يترك هذا الإمام وشأنه؛ فأخذ المغرضون يُشيعون الاتهامات ويحاولون إلصاقها به، لا سيما مخالفيه الذين أعيتهم قوة حُجَجِه ورسوخ براهينه.

فأخذوا يكيدون له مرة بعد الأخرى، فتارة يوغرون عليه صدر هارون الرشيد بأنه ذهب إلى اليمن ليؤسس دولة يستقل بها عن حكم العباسيين؛ فيأمر بحمل الإمام الشافعي من اليمن إلى بغداد مكبّلًا بالأصفاد، ثم يعيده إلى مكة معززًا مكرمًا بعد أن يكتشف كذب الوشاية ويعجب بعلم الإمام وعقله ودينه.

وتارة أخرى يُشَنّعون عليه بأنه “رافضي” بسبب أنه كان مُتيّمًا بحب آل البيت عليهم السلام، فأنشد في حبهم وتولّيهم أبياتًا قال فيها:

يا آلَ بيتِ رسولِ اللهِ حُبُّكمُ     فرضٌ مِن اللهِ في القرآنِ أنزلَهُ

يَكفيكمُ مِن عظيمِ الفخرِ أنّكمُ  مَنْ لم يُصلِّ عليكمْ لا صلاةَ لَهُ

فلما أكثروا الشائعات وإطلاق تهمة الرفض على الإمام نظم أبياتًا قال فيها:

قالوا تَرَفّضْتَ قلتُ: كلا         ما الرفضُ ديني ولا اِعتقادي

لكن توليتُ غير شكٍ            خيرَ إمامٍ وخيرَ هادي

إن كان حُبُّ الوليِّ رفضًا         فإنَّ رفضي إلى العبادِ

ومع ذلك استمرت الشائعات على قاعدة: “اكذب واكذب حتى يصدقك الناس” فقال رحمه الله شعرًا:

إذا في مجلسٍ نذكر عليًّا          وسبطيه وفاطمةَ الزكيَّة

يُقال تجاوزوا يا قوم هذا          فهذا من حديث الرافضية

برئتُ إلى المهيمنِ من أُناسٍ               يرون الرفضَ حُبَّ الفاطمية

ثم فاض الكيل بهذا الإمام العظيم فطلب أن يُهتَف على مسامع الحُجاج بإعلان إصراره وثباته على حب آل البيت رغم أُنوف الحاقدين:

يا راكبًا قِفْ بالمُحَصَّبِ مِن منى  واهتِفْ بَقاعدِ خَيفِها والناهضِ

سَحَرًا إذا فاضَ الحجيجُ إلى منى  فيضًا كَمُلتَطِمِ الفُراتِ الفائضِ

إنْ كانَ رَفضًا حُبُّ آلِ مُحمدٍ    فَلْيشْهَدِ الثَقَلانِ أنّي رافضي

وكما هو شأن من سلكوا مسلك الرشد فعرفوا الفضل لآل البيت عليهم السلام وللصحابة رضي الله عنهم وذاقت أرواحهم شَهدَ محبتهم جميعًا من محبة من صحبوه ومن كانوا آل بيته ﷺ، فقد كان الإمام الشافعي يُصرح بالفضل لأهله ويُظهر محبته لسادتنا أجمعين.

غير أن هذا لم يَرُقْ للغُلاة المتطرفين فاتهمه فريق بالرفض واتهمه فريق آخر بالنصب.

والرافضي هو: من حمله بُغضُ الشيخين الجليلين سيدنا أبي بكر وسيدنا عمر رضي الله عنهما على سبِّهما والتطاول عليهما والعياذ بالله من ذلك.

والناصبي هو: من حمله بغض آل البيت عليهم السلام على التطاول عليهم ومناصبتهم العداء.

ومن عجائب فقد البصيرة لدى الحسود وكذلك المتطرف الوقوع في التناقض الفاضح؛ فيسوغ لكل منهما إطلاق التهمة وضدها على نفس الشخص!

فما كان من الإمام الشافعي إلا أن أظهر سخف التطرّف والمتطرفين معلنًا ثباته على الإقرار بفضل أبي بكر وعلي رضي الله عنهما فقال:

إذا نحنُ فَضَّلنا عليًّا فإننا         روافضُ بالتفضيلِ عندَ ذوي الجهلِ

وفضلُ أبي بكرٍ إذا ما ذكرتُهُ      رُميتُ بِنَصبٍ عندَ ذِكْريَ للفضلِ

فلا زلتُ ذا رفضٍ ونصبٍ كلاهما بحُبيهما حتى أُوَسّدَ في الرملِ 

والأمر هنا لا يتعلق باجترار معارك التاريخ وخصوماته فحسب؛ بل هو متعلق بنفسية التطرّف المريضة التي نعاني الأمرين بتفشي عدواها وانتشار وبائِها في عصرنا مما تسبب في استمرار تخلفنا، وإغراقنا في الفتن وإراقة الدماء، وجعلنا أضحوكة بين الأمم وأُلعوبة بأيدي ساستها، والله المستعان.

فلا ينبغي للعاقل أن يُصغي إلى أمثال هذه السخافات، لا سيما الموسمية منها كما هو الحال في النزاع السقيم المتكرر حول يوم عاشوراء، هل نصوم أم لا نصوم؟ هل كان يوم نجاة سيدنا موسى عليه السلام أم لا؟ هل يحزن المؤمن لمُصاب آل البيت في كربلاء أم يفرح لنجاة سيدنا موسى ولكرامة ثباتهم ولحوقهم بجدهم شهداء؟

وما يترتب على ذلك من بعث المصطلحات من قبور التاريخ “ناصبي، رافضي”.

فما هي إلا مادة استهلاكية لإشعال الفتنة، وزيادة تأجج نار الكراهية، وتطبيع القتل والدمار.

فمن فرح بنجاة سيدنا موسى عليه السلام فهو على حق، ومن حزن لمُصاب سيدنا الحسين عليه السلام دون غلو فهو على حُب، والحق والحُب لا يختصمان.

وكل مظاهر الغلو والتطرف من اللطم وجلد الأجساد وإسالة الدماء، لا سيما من الأطفال، محرمة لا يرتضيها شرع ولا عقل، كما أنّ مقاومتها بالمفخخات والعمليات الانتحارية جريمة شنيعة.

ونُردد في خاتمة الخاطرة أبيات الإمام الشافعي رحمه الله في حب آل البيت غير مُبالين بتشنيع المشنِّع ولا بإرجاف المرجف، فالمحب لا يستوقفه عَذْلٌ ولا لوم:

آلُ النّبيِّ ذَريعتي          وَهُمُو إليه وسيلتي

أرجو بهم أُعطى غدًا     بيدي اليمين صحيفتي.

اللهم ألهمنا الرشد واسلك بِنَا سُبُلَ السلام يا ذا الجلال والإكرام.

© 2014 TABAH WEBSITE. All rights reserved - Designed by netaq e-solutions