للأعلى
02-مارس-2008

تكرار الإساءات.. وسُنة المواقف (٢-٢)

يري المفكر والداعية الحبيب أبوبكر العدني المشهور، حفظه الله، أن كل تحول في حياة الأمة، يجب أن يكون لنا موقف منه، وموقف فيه، وموقف تجاهه، وفق الحال الذي تشير إليه الدلالات والشواهد، وأن من السنن التي يجب أخذها عن رسول الله صلي الله عليه وسلم – بجانب القول والفعل والتقرير- ما سماه سنة المواقف، التي يؤصل قاعدتها قوله عليه الصلاة والسلام: «عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي وعضوا عليها بالنواجذ».

    وحقيقة المسألة أن هناك تكراراً للإساءات، التي تأتي علي نحو متعمد من سفهاء في الغرب، فهي وإن كانت حقاً وصدقاً تنم عن حقد وكراهية وتشفٍ، لكنها لا تقف عند ذلك، وإلا فهي أقل من أن يلتفت إليها أصلاً، إذ تأتي ضمن تسلسل واضح يتصاعد وقتاً بعد وقت، بما يملي علينا ضرورة التبصر بحقيقة الأهداف والمقاصد من وراء تكررها.

    ذلك أن المخاطب بتلك الإساءات في المقام الأول هو الشعوب الأوروبية، التي لم تطلع علي حقيقة الإسلام، وبهدف تشويه الصورة الذهنية عن نبي الإسلام وعن المسلمين، بدليل أنها صدرت عن بلد ليس له سجل واحد في محاربة الإسلام، فلا نعرف لكل الدول الإسكندنافية مشاركة في الحروب الصليبية، بقدر ما نشهد لهم مواقف إيجابية في مناصرة قضايا المسلمين، وبالأخص فلسطين، إلي حد مطالبة البرلمان الأوروبي بتوقيع العقوبات علي إسرائيل.

    بل إن المسألة ليست بالتعصب الديني، فالدنمارك ليست بالشعوب المتدينة، والذين يترددون علي الكنائس هناك نسبة متدنية للغاية، فالمسألة فيها نوع من التحريض ضد المسلمين في ديار لم يسبق منها صدور العداء لهم، ومن ثم فهي ليست من الصنف الذي يقابل بالإعراض والتجاهل، وعدم الرد بنفس الدرجة التي لا تنطبق فيها حالة استخدام العنف.

   مجمل القول، إن تكرار الإساءات يندرج ضمن الصنف الثالث الذي فيه نوع تحريض علي المسلمين، سعياً إلي مقصد يزداد في أعيننا وضوحه إذا ما تساءلنا عما إذا كانت تلك الإساءات موجودة ضمن ثقافة القوم أم أنها أمر جديد عليهم؟

   فالثابت أن أوروبا في زمن سيادة المسيحية قد صدرت عنها صنوف من الإساءات والاجتراء علي رسول الإسلام -عليه الصلاة والسلام- بدافع الحقد والتشويه والاستعداء، لكننا نشهد في الغرب الحديث اندراج الأمر ضمن توجه عام معادٍ لكل الأديان والمقدسات، فلا يختص رسول الله، صلوات ربي وسلامه عليه، بالإساءة فحسب، بقدر ما يزدري كل الأنبياء ويعصف بكل المقدسات، وما لوحة الفنان الأمريكي أندريس سيررانو بعنوان «البول علي المسيح» أو أفلام «آخر وسوسة للمسيح» و«حياة برايان» ببعيدة عن الأذهان، وإن كان هناك اجتراء يزداد يوماً بعد يوم بالتركيز علي الإسلام ونبي الإسلام، ولذلك أسبابه.

    هناك علوم تسمي بعلوم الاستشراف، التي تبني مستقبل الشعوب والأمم بعد خمسين عاماً، بناء علي حقائق ومعطيات الحاضر، وتتوجه بالذات إلي صانعي القرار بالتنبيه والتحذير، وتقوم علي هديها أولويات السياسات العامة، ومنها ما يتعلق بمستقبل الوجود الإسلامي في أوروبا، إذ تشير الدراسات إلي أن نسبة وعدد المسلمين سيرتفعان كثيراً في السنوات الثلاثين القادمة، إلي ما قد يجاوز النصف في بعض البلاد الأوروبية، وذلك مع الأخذ في الحساب مسألة الفراغ الروحي وافتقاد القدوة، التي تعانيها الحضارة المعاصرة، والتي قد يترتب عليها دخول أعداد أكبر في الإسلام.

    فمعني تلك الأرقام أن أوروبا – في سعيها الراهن نحو التكامل – عليها أن تعيد ترتيب هويتها لتدخل ضمنها معطيات حضارية غير مسيحية من دين وثقافة وحضارة وعادات، الأمر الذي يبرر وجود شيء من التخوف يتنامي في النفوس والعقول من تزايد عدد المسلمين هناك، وهذا أمر.

   أما الأمر الثاني، فهو ما تشهده دار الإسلام من اعتداء واحتلال واختلال، كانت الشعوب الأوروبية في مقدمة المعادين له، ولعلكم تتذكرون المظاهرات المليونية التي خرجت ضد احتلال العراق، انطلاقاً من عواصم أوروبية، وأن هناك حكومات سقطت في بلاد عدة جراء مناصرتها احتلال العراق، بل وصلت أحزاب لسدة الحكم، لأنها ركزت في حملاتها الانتخابية علي سحب القوات من هناك، كأول قرار لها في السلطة، فالشعوب الأوروبية بالنظر إلي معاناتها في الحروب العالمية المتتالية، أضحت تكره القتل والعدوان، وتتعاطف مع الدواعي الإنسانية لغيرها من الشعوب.

    ومن ثم يبحث اليمين المتطرف عن مبررات لاستمرار حملات الاعتداء علي أرض المسلمين، فلا يوجد تبرير أبلغ من أن يعاد تشكيل الصورة الذهنية عن المسلمين عبر تصويرهم علي أنهم مجموعة من المتطرفين الهمج أو الوحوش، الذين لا يعرفون سوي القتل والحرق وإهانة رموز الدول وأعلامها، علي نحو لا نستبعد فيه ارتباط تكرار الرسومات بتعاطف الشعوب الأوروبية مع المأساة الإنسانية لقطاع غزة وضرورة إنهاء الحصار.

     فهذه مقدمات تتبعها نتائج تتصل بسنة المواقف، فإذا ما عرفنا أن المقصود من تلك الإساءات هو تأليب الشعوب الأوروبية علي الوجود الإسلامي المتنامي بداخلها، وعلي استمرار العدوان علي أرض المسلمين، فما الواجب علينا في هذه الحالة، وما طبيعة الدور الذي يجب علينا القيام به اقتداء بسنة المواقف؟

    إن تكرار الإساءة لا يقابل بالصمت، فلا يسع المسلم، وغير المسلم، أن يقف متفرجاً أمام الاجتراء علي أحد أنبياء الله تعالي، ونحن ضد كل تدنيس للمقدسات وكل إهانة لنبي من أنبياء الله، وذلك من مشكاة غضبنا وانفعالنا للاجتراء علي رسول الإسلام، عليهم صلوات الله وسلامه، كذلك فإن في التصرف بالحرق والقتل والصراخ أو بأمور تخالف الشريعة ما يحقق بالضبط المقصود من تلك الإساءات من تشويه لصورة الإسلام والمسلمين وتأليب للشعوب عليهم.

    إن أول ما تقابل به حملات الإساءة والاجتراء هو التوضيح، فنحن مسؤولون بداية عن عدم معرفة تلك الشعوب بحقيقة رسول الله، وقارنوا لو أن الجرائد تلك شوهت صورة غاندي أو مانديلا وصورتهما علي أنهما إرهابيان، فهل كانت الشعوب الأوروبية لتتقبل ذلك، أم كانت لتهزأ منها، لأن الصورة الذهنية عن هذين راسخة باعتبارهما صاحبي قضية ودعوة وسلام ، فهل أوصلنا هذا المعني عن رسول السلام والإسلام؟

    وثاني مواقف المقابلة هو في التعريف برسول الله بالسلوك والمعاملات، فكم سمعنا من سنن رسول الله، عليه الصلاة والسلام، وكم أخذنا منها في معاملاتنا، لقد كان رسول الله، عليه الصلاة والسلام، أكثر الناس تبسماً، وكان يرحم الصغير والكبير، ويحسن إلي الجار المسلم وغير المسلم، فهل أخذنا ذلك في سلوكنا تعريفاً بحضرته وأخذاً بالنصرة والتوضيح؟

    والثالث عندما تأتي هذه المواقف.. هل فكرنا في وضع إخواننا المسلمين الذين يعيشون هناك في الغرب؟ وهل أدخلنا ضمن انفعالاتنا ضد الإساءات مدي تأثير ذلك علي وجودهم الحرج هناك؟ وهل فكرنا في تحويل واقع الإساءات إلي مواقف داعمة لهم، وهو ما يشكل – حقيقة – أبلغ رد علي المقصود من حملات التشويه والإساءة؟

    والأمر الأخير نخاطب من خلاله وسائل الإعلام، لماذا نسمع دائماً أخبار الإساءات ولا نسمع الأخبار الأخري التي تبين للعقل المسلم وللعقل الأوروبي كذلك أن هناك المسيء وهناك المحسن، هناك التطرف وهناك الاعتدال؟ فهل وصل إلي الشعوب العربية أن علماء المسلمين قد استنكروا حرق السفارات أو الاعتداء علي المعاهدين، وإن كانوا ضد ما صدر عن جرائد الدنمارك؟ وهل وصل للشعوب المسلمة أخبار موقع أسسه وأيده عدد من أبناء الدنمارك غير المسلمين بعنوان «عذراً محمد»؟

    لماذا تركز وسائل الإعلام علي تصريح الكاردينال توران، رئيس المجلس البابوي للحوار، بعدم جدوي الحوار مع المسلمين، لأنهم يعتقدون أن كتابهم مقدس، ويتجاهلون أن أكثر من ٣٠٠ من المراجع المسيحية، قدمت اعتذاراً للمسلمين عن الحروب الصليبية، وعما يسمي الحرب ضد الإرهاب؟ فلماذا إذن يرتفع صوت التطرف ويخفت صوت الحكمة والاعتدال في الطرفين؟

© 2014 TABAH WEBSITE. All rights reserved - Designed by netaq e-solutions