للأعلى
29-سبتمبر-2007

العدل أولاً

عندما يتحقق العدل، باعتباره مركز دائرة القيم، تتحقق بتحققه سائر القيم المرتبطة به، ومنها الحرية كنتيجة منطقية لنفي الظلم، وعندما تتأسس علاقات الأفراد والجماعات علي العدل تستقر حرياتهم وتتقوي، لأنها تستند علي الحق وتقوم عليه، علي حين لو تأسست علاقاتهم علي الحرية وحدها، باعتبارها رأس هرم القيم فسرعان ما يطغي طرف علي طرف، القوي علي الضعيف والأقوي علي القوي .

ولهذا فإن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ قد حقق العدل أولاً في واقعة ابن القبطي المشار إليها في المقال السابق، مؤكداً من خلال تطبيق العدل، سعيه إلي تحقيق الحرية لكل الأفراد والجماعات بقوله: «متي استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً»، فالعدل في هذه الواقعة هو الذي أخرج الرجل القبطي من مهانة الإحساس بالظلم والاعتداء والطغيان إلي رحاب الحرية، وليست الحرية وحدها هي التي أدت إلي ذلك، إذ لو كانت الحرية هي رأس هرم قيمنا لما استطاع الرجل أن يقتص أو أن يعفو، لأن تحقق الحرية وحدها ليس بكاف ولا يستوجب بالضرورة تحقق العدل.

فالعدل غاية الحرية وسابقها وضابطها، والحرية وسيلة من وسائله لتحقيق معاني الارتقاء بالكرامة الإنسانية، والحق في الكرامة الإنسانية حق أصيل مستمد من الله تعالي لكل البشرية وبموجبها، وهو حق تندرج تحته جميع الحقوق السياسية والمدنية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي تتحدث عنها الصكوك الدولية لحقوق الإنسان، دون أن تعي ذلك الترابط الوثيق بين كل أنواع الحقوق تلك وبين الحق في الكرامة الإنسانية كأصل جامع لها.

وتتحقق العدالة في كل معاملات الإنسان، فنتحدث عن عدالة الإنسان في ذاته، وعدالة الإنسان بينه وبين الآخرين، وعدالة الإنسان في علاقته بالله تعالي، فأما عدل الإنسان في علاقته بالله فيكون بالقيام بحق الله عليه في العبادة وإخلاصها له سبحانه،

كما في قول الرسول عليه الصلاة والسلام عن معاذ رضي الله عنه قال: «كُنْتُ رِدْفَ النَّبِي صَلَّي اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ عَلَي حِمَارٍ يقَالُ لَهُ عُفَيرٌ فَقَالَ: يا مُعَاذُ هَلْ تَدْرِي حَقَّ اللَّهِ عَلَي عِبَادِهِ ؟ وَمَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَي اللَّهِ ؟ قُلْتُ :اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ .قَالَ: فَإِنَّ حَقَّ اللَّهِ عَلَي الْعِبَادِ أَنْ يعْبُدُوهُ وَلَا يشْرِكُوا بِهِ شَيئًا، وَحَقَّ الْعِبَادِ عَلَي اللَّهِ أَنْ لَا يعَذِّبَ مَنْ لَا يشْرِكُ بِهِ شَيئًا. فَقُلْتُ :يا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلَا أُبَشِّرُ بِهِ النَّاسَ ؟ قَالَ: لَا تُبَشِّرْهُمْ فَيتَّكِلُوا» ( صحيح البخاري).

وأما عدل الإنسان فيما بينه وبين نفسه، فيكون بحملها علي الأخلاق، وكفها عن القبائح، والوقوف في أحوالها علي أعدل الأمرين من غير تجاوز أو تقصير، فإن التجاوز فيها جور والتقصير فيها ظلم، ومن ظلم نفسه فهو لغيره أظلم، ومن جار عليها فهو علي غيره أشد جوراً، وقد وصل الأمر التشريعي في التدقيق في أمر العدل، مع النظر إلي حد جعل فيه المشي بنعل واحد مكروهاً، لأنه يسبب غياب العدل بين القدمين في حق المشي بالنعال .

وأما عدل الإنسان فيما بينه وبين الناس، فهو أساس كل تعامل وكل قول وكل فعل في علاقات الإنسان بأخيه الإنسان في كل المجالات، إذ العدل فوق كل شيء ويطبق علي كل أحد، «عَنْ السيدة عَائِشَةَ أم المؤمنين رَضِي اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ قُرَيشًا أَهَمَّهُمْ شَأْنُ الْمَرْأَةِ الْمَخْزُومِيةِ الَّتِي سَرَقَتْ، فَقَالُوا :وَمَنْ يكَلِّمُ فِيهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّي اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ؟

فَقَالُوا :وَمَنْ يجْتَرِئُ عَلَيهِ إِلَّا أُسَامَةُ بْنُ زَيدٍ حِبُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّي اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، فَكَلَّمَهُ أُسَامَةُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّي اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ؟ ثُمَّ قَامَ فَاخْتَطَبَ، ثُمَّ قَالَ :إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيهِ الْحَدَّ، وَايمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يدَهَا» وحاشاها ( صحيح البخاري).

وحينما جعلنا العدل قمة رأس قيمنا، فإننا نتحدث عن قيمة مطلقة، تستمد إطلاقها من صفة العدل المقترنة بالله تعالي، فهو الحكم العدل المقسط، والله القائم بالقسط لا يحكم إلا بالحق ولا يقول إلا الحق ولا يقضي إلا بالحق، والله تعبدنا بالعدل في قرابة ثلاثمائة آية في القرآن الكريم، وأمرنا بالعدل في المقال وبالعدل في الأفعال، قال تعالي: «يا أَيهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَي أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَينِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يكُنْ غَنِيا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَي بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَي أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا» ( النساء ١٣٥)، «وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَي وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ» ( الأنعام ١٥٢).

والالتزام بالعدل مطلق حتي في مواجهة الأعداء فلا تكون عداوتهم أو بغضهم سبباً في ظلمهم، قال تعالي: «يا أَيهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَي أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَي وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ» (المائدة٨)، بل لما رأي المسلمون التمثيل بشهدائهم في غزوة أحد قال بعضهم: لو أصبنا منهم يوماً من الدهر لنزيدن عليهم، فأنزل الله تعالي: «وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيرٌ لِلصَّابِرِينَ» (النحل ١٢٦) .

والعدل أمانة وهو درع الحقوق، به تتحقق حمايتها، دون أن يمنع ذلك أصحاب الحقوق من اتباع الخير وإقامة الفضل والإحسان بعد تحقق العدل، إذ العفو أقرب للتقوي، وبما يجعل مرتبة الفضل والإحسان أرقي من حيث التطبيق من العدالة إذا كان الحكم بينك وبين آخر، أما إذا حكمت بين اثنين، فليس لك إلا العدالة . قال يحيي بن معاذ: «اصحبوا الناس بالفضل لا بالعدل، فمع العدل الاستقصاء، وإنما لأرجو أن لا يحاسب الله تعالي عباده بالعدل وقد أمرهم أن يعامل بعضهم بعضاً بالفضل».

إن القرآن العظيم لا يكتفي بقرابة ثلاثمائة آية تحض علي العدل، ولكنه في ثلاثمائة آية أخري يندد بالظلم ويحذر منه ويقرنه بالشرك والعدوان والطغيان، ولا يحدد مجالاً واحداً ولا معيناً للظلم فيأتي توجيهه شاملاً لكل مناحي الوجود الإنساني من ظلم الإنسان لنفسه إلي ظلمه لأخيه الإنسان إلي ظلمه للبيئة المحيطة به .

والإطلاق في قيمة العدالة في مركز دائرة القيم، يأتي كذلك من استناد العدل إلي الحق، فالقرآن الكريم يجمع بين العدل والحق.. الحق من أسماء الله تعالي ومن صفاته «فَتَعَالَي اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ» (المؤمنون١١٦)، وهو أساس خلق السموات والأرض، وأساس الحكم بين الناس «يا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَينَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَي فَيضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يوْمَ الْحِسَابِ» (ص ٢٦).

فالحق والعدل من أسماء الله الحسني، وقد يستخدم لفظ منها مكان الآخر، وإن اتخذ العدل الصفة العملية التطبيقية واتخذ الحق الصفة المعنوية المعتقدة، فتظل علاقة العدل بالحق علاقة عضوية متكاملة، فالعدل يستمد وجوده من الحق، والحق يأخذ شكله بالعدل، فتنتفي عن العدل، بحكم انبثاقه عن الله تعالي، صفة النسبية، ويصير قيمة مطلقة مؤهلة لاعتلاء قمة هرم القيم في النظام الإسلامي.

© 2014 TABAH WEBSITE. All rights reserved - Designed by netaq e-solutions