للأعلى
19-سبتمبر-2007

الحرية في المنظور الإسلامي بين النسبية والإطلاق (2/5)

انتهينا في المقال السابق إلي تأكيد أهمية الحرية في الإسلام، وأنها ليست ذاتية في الإنسان بقدر ما هي اختيار وتكريم من الله تعالي، للقيام بمهام الخلافة في الأرض وعبادة الله عز وجل.

والإسلام في جوهره هو دعوة إلي التحرر لكل الناس باعتبار الحرية هي الأصل العام كما في قولة عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «متي استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً»، فهو دعوة سامية للحرية دون قيود من عرق أو جنس أو دين أو لون، دعوة لتحرر الإنسان بصفته الإنسانية المكرمة من الله تعالي والمستخلف في أرضه،

وهو دعوة شاملة للتحرر من كل ما يقيد الإنسان من روابط تناقض طبيعته وتكبل إرادته، تلخصها عبارة الصحابي الجليل ربعي بن عامر حين سأله رستم قائد الفرس عن أسباب خروجهم من جزيرتهم، قال: «إن الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عباده من عبادة العباد إلي عبادة الله وحده، ومن جور الأديان إلي عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلي سعة الدنيا والآخرة».

فجوهر الإسلام تحرير الإنسان من عبادة العباد، والتي تعني في أعمق صورها عبودية الإنسان للأهواء والشهوات، كما تعني أيضاً عبودية الإنسان لغيره من البشر بكل ما تحمله من قهر وطغيان، علي نحو يجعل عبادة رب العباد أسمي درجات التحرر الإنساني، إذ لا توجد أي قيود علي الإدراك أو الاعتقاد أو القول أو الفعل والحركة سوي علاقته بربه تعالي، بل إن مناط التكليف في الشريعة يقوم علي الحرية، إذ إنه مترتب علي العقل والاختيار وهما أساس الحرية الراشدة، وليست حرية الأهواء والانفعالات الطبيعية والغريزية، فالمكره لا مؤاخذة عليه لأنه فقد حرية الاختيار.

وحريات الإنسان وخياراته في التصرف واسعة جداً في الفقه الإسلامي، إذا ما أخذنا في اعتبارنا المجالات الخمسة للأحكام الشرعية من الواجب والمستحب والمباح والمكروه والمحرم، وأن ما بين الواجب في الطرف الأيمن وبين المحرم في الطرف الأيسر، ثمة مجالات متسعة ورحبة للحريات الإنسانية،

بمعني أن هناك حدوداً قصوي للحرية الإنسانية في افعل هذا لأنك محتاج إليه، أو لا تفعل ذاك لأنه يمثل ضرراً عليك في الدنيا والآخرة، لكن ما بين دفتي الفعل والترك، هناك مساحات واسعة للحركة يأخذ بها الإنسان ويتعامل معها علي سبيل الارتقاء، والسمو في عبوديته لله تعالي، مع كونه غير مقيد في أكثر الواجبات والمحرمات إلا بقيد الرقابة الذاتية لله تعالي علي نفسه، وهو معني الإحسان السامي في الإسلام: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك.

ففي صحيح البخاري عن طلحة بن عبيد الله قال: «جاء رجل إلي رسول الله، صلي الله عليه وسلم، من أهل نجد ثائر الرأس يسمع دوي صوته ولا يفقه ما يقول حتي دنا فإذا هو يسأل عن الإسلام، فقال رسول الله، صلي الله عليه وسلم: خمس صلوات في اليوم والليلة، فقال: هل علي غيرها؟ قال: لا إلا أن تتطوع، قال: وذكر له رسول الله،

صلي الله عليه وسلم، الزكاة، قال: هل علي غيرها؟ قال: لا إلا أن تتطوع، قال: فأدبر الرجل وهو يقول: والله لا أزيد علي هذا ولا أنقص، قال رسول الله، صلي الله عليه وسلم: أفلح إن صدق»، فالمقصود هنا أن هذه هي طاقة الرجل وحرية تصرفه، لا يكلف بأكثر منها، لكن الإسلام يدفع الإنسان إلي الارتقاء بحريته وتصرفاته علي نحو تغدو حتي المباحات والعادات، ضرباً من العبادة والتقرب إلي الله تعالي.

فالحرية علي إطلاقها بمعني التجرد من كل ما يقيد القول أو الفعل أو السلوك والتصرف أو من كل ما يوجب علي الإنسان من مسؤولية تجاه نفسه أو الآخرين، وهم لا وجود له، وكون الإنسان جزءاً من جماعة يعني خضوعه لدرجات متفاوتة من الواجبات والمسؤوليات، الأمر الذي يقود إلي دخول الحرية دائرة العدل،

حيث لا تجد الحرية كقيمة فاعليتها إلا بالعدل الذي يعلي من شأنها أو يمنعها من أن تتحول إلي اعتداء علي الآخرين، و هي بذلك تصبح حرية نسبية خاضعة للمسؤولية وللواجب الإنساني نحو الذات ونحو الآخر، كما في الحديث الشريف الذي أورده الطبراني في معجمه الكبير عن أبي أمامة قال: «إن غلاماً شاباً أتي رسول الله، صلي الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، ائذن لي في الزنا، فصاح الناس فقال: (مه)، فقال رسول الله، صلي الله عليه وسلم: (أقروه إذن)،

فدنا حتي جلس بين يدي رسول الله، صلي الله عليه وسلم، فقال له رسول الله، صلي الله عليه وسلم: أتحبه لأمك؟ قال: لا، قال: وكذلك الناس لا يحبونه لأمهاتهم، أتحبه لابنتك؟ قال: لا، قال: وكذلك الناس لا يحبونه لبناتهم، أتحبه لأختك؟ قال: لا، قال: وكذلك الناس لا يحبونه لأخواتهم، أتحبه لعمتك؟ قال: لا، قال: وكذلك الناس لا يحبونه لعماتهم؟ أتحبه لخالتك؟ قال: لا، قال وكذلك الناس لا يحبونه لخالاتهم، فوضع رسول الله، صلي الله عليه وسلم، يده علي صدره، وقال: اللهم كفر ذنبه، وطهر قلبه، وحصن فرجه».

© 2014 TABAH WEBSITE. All rights reserved - Designed by netaq e-solutions