للأعلى
01-يوليو-2002

لقاء جريدة الشرق الأوسط

أكد الداعية الإسلامي الحبيب علي زين العابدين الجفري ، أن قرار السلطات المصرية بإبعاده عن أراضيها دون إبداء مبرر حيال هذا التصرف ، لن يثنيه عن المضي قدما في برنامجه الدعوي الذي خطه لنفسه منذ أعوام . وكشف الجفري في حواره مع < الشرق الأوسط > ، التي التقته في جده وهو في طريقه الى دولة الامارات العربيه المتحدة، حيث قرر أن يمضي بعض الوقت هناك قبل أن يعود إلى موطنه الاصلي في تريم بحضرموت ، أن أحد أسباب المشاكل التي تعاني منها الأمه هو تغيب الصوفية عن الساحة الدينية ، وكيف أن تفريغ الدعوة من جانبها الروحاني مع تغييب دور الحرمين الشريفين كمنارة علم وإشعاع معرفي أحدث ما نراه من تشدد اليوم.وخلص إلى أنه متى تخلى العلماء عن سطوة العصا أو العسكري أثناء تخاطبهم مع البعض ، والتزم الحاكم والعامي بالضابط الشرعي الواجب أن يكونوا عليه فإن المجتمع سيستقيم.وفيما يلي نص الحوار ….

يتهم الأميركيون الحركات السلفية بتغذية العداء ضد الثقافات الغربية ، ويستدلون على ذلك بأن معظم من قام بأحداث 11 سبتمبر هم من أتباع هذه الحركة ؟

قبل الحديث عن اتهامنا بالتطرف وتغذية روح العداء ، يجب أن نسأل أنفسنا ما الذي أوصلنا الى هذا الوضع ، والإجابه هنا تكمن في تفرد أحد المناهج الإسلامية الدعوية الموجودة اليوم في الساحة بالتخاطب عن الاسلام بمفرده ، فهو يرى أنه الوحيد الذي يمثل الاسلام ، ولذلك لا يستغرب إن تفرد العدو بمخاطبته على النحو الذي لا يعجبه ولا يروق له .

كذلك من القصور أن ننتظر من الغير أن يخاطبنا بما نحب وما نريد ، أو ما فيه نفعنا أو حتى الإنصاف ، حيث يقتضي الفهم الصحيح أن نقيم بنائنا بذاتنا ، ونفتح أبواب التخاطب فيما بيننا ، ونقبل أن يعارضنا غيرنا ، وأن يكون فينا من يخالفنا إذا ما استند الى الكتاب أو السنه أو مصادر التشريع ، وأن نسمو عن مستوى التفرد أو ادعاء التفرد في فهم الإسلام والتخاطب به ، أن لا يثقل على أحدنا أن يرجع عن خطأ ما إذا ُبين له أنه الخطأ ، أيضا نحتاج الى ترتيب أولويات الخطاب المتعلق بخدمة الدين ، فينبغي لمجتمع أهل العلم أن يكون بينهم من الإنصات والتقبل لسماع الرأي الآخر فيهم إذا قام على مستند شرعي ، من منطلق الإستفادة والإفادة ، وأن لا نعيش مرحلة التعالي على بعضنا البعض . على أننا لا نقبل مهما اختلفنا مع إخواننا أن يتخذ غيرنا ذلك ذريعة لمهاجمة الدين.

تدعي جميع الحركات بأنها تسير على نهج السلف وتتهم في المقابل الآخر بالابتداع والخروج ، كيف نستطيع معرفة الاختلاف بينها ؟

هنا تأتي قيمة السند ، وليس المقصود بالسند سند المتن من الراوي فما فوق ، من البيهقي أو الترمذي أو أبي داوود ، بل السند من المتكلم الآن إلى الامام الذي يروي بسنده للرسول صلى الله عليه وآله وسلم ، وعندما أقول أني صاحب المنهج الصحيح مستدلا مثلاً بحديث في البخاري ، وأسأل من أين تروي البخاري ، فأسرد أنني أخذته إجازة أو قراءة على الشيخ فلان الذي أخذه على الشيخ فلان بسنده الىالامام البخاري .

الأمـر الآخر هو فهمي الذي أريد أن أستنبطه من بخاري أو غيره ، وهل يتوافق مع الجمهور ممن أروي البخاري من طريقهم ، أم أن مقتضى الفهم الذي سأستخلصه من النص سوف يصل بي الى إلقاء التهمة على من كانوا السبب في إيصال البخاري إلي .

وهذا الضابط قلما يتحدث عنه أحد اليوم ، وهي من سلبيات الأكادميه في تلقي العلوم الشرعيه ، كونها أضعفت في الأمه منهجية التلقي للنص الكامل مع الشرح الكامل بالسند الكامل ، وليس المقصود من هذا أن الأكادمية غير مجدية ، لكنها تحسن إخراج المثقفين المسلمين لنا ، أما العلماء المحققين فلا ُيخرجهم إلا منهجية الأخذ بالتلقي .

ألا تعتقد أن هذا الطرح سوف يولد صراعا بين العلماء الحاصلين على شهادات علمية من جامعات ومراكز دينيه وهم كثر وأولئك القلة المجازون من مشائخهم ؟

لا يحدث الصراع إذا حصل الإخلاص والصدق مع الله ، ونزل البعض عن أبراج التعالي على الآخرين ، وترك الاتكاء على المقومات الأخرى من التفوق المادي أو الإعلامي أو السلطوي إلى منهجية أخرى ، وهي كيف تتم مخاطبة صاحب العلم ، وكيف يتم تقييم منطقية النقاش والحوار بين العلماء ، فلا يتأتى لأحد إذا وجد الذي أمامه مصراً على رأيه ويصعب عليه مجاراته في الأدلة التي يطرحها أن ينادي له العسكري ليأخذه ، يجب تجاوز هذه المرحلة ، فالصراع ليس في اختلاف المدارس ، بل في منهجية الاختلاف .

يتهم المتشددون في الحركة السلفية بتفريغ الدعوة الإسلامية من بعدها ” الروحاني ” كيف ترد على ذلك ؟

إن الإسلام حين خاطب الإنسان خاطبه بكله، روحاً وجسداً وعقلاً ونفساً فمن أخذ جزئية وترك الأخرى أو أهملها فلا شك أن في خدمته للإسلام كثيراً من النقص، التي ربما تعود بالضرر عليه وعلى من حوله.

هذه المنهجية الجزئية التي تقتضي إغفال أحد الجوانب، سببت اضطراباً في المجتمع الذي تقوم فيه، وأبلغ تفسير على هذا، شدة لهفة شباب اليوم خلف المغريات المادية، وضياعهم على نحو لم نستطع فيه وضع حد لكثير من مشكلاتنا، ووقف التهاوي الذي يتعرضون له.

وهذا لا ينفي وجود التخصص، فمن فتح الله عليه في مخاطبة الناس من منظور عقلي فلا يدخل للمنظور الروحي ما لم يكن متقنا له، ولا يجعل الإسلام محصورا على ما فهمه هو، وليتكلم بما أتقن ويفسح في عقل وقلب من يسمعه مجالا لغيره ، لكون مهمة الداعي دعوة الناس الى الله لا إليه، لا إليه فردا ولا منهجا ً .

يلاحظ هذه الأيام أن من اتهموا بالعلمانية والأعداء التقليدين للحركات الدينية أصبحوا الآن من كبار المدافعين عنها .. كيف نفهم ما يحدث ؟

يمكن فهم ما يحدث بمنتهى البساطة ، لا يوجد انسان مسلم شرير بكليته ، ومن عنده نسبة كبيرة من الشر ليس بشرير مع سبق الإصرار والترصد وتفهم أيضا أن كثيراً من إصرار بعض أهل التوجهات اللا دينية في صفوف المسلمين على ما هم عليه كان من أسباب إيجاد روح التضاد في الخطاب ، فمن الممكن أن أكون ضد منهجك ولكن هذا لا يقتضي بالضرورة أن أكون ضد شخصك ، لأن مهمتي ليست محاربة شخصك وإن اختلفت معك ، وإنما مهمتي الأصلية لو فقهت الدعوة على نحو صحيح أن أقنع شخصك أنت لتتحول من شخص مضاد لمنهج الدين وطرحه إلى شخص يستفيد بخدمة الدين وطرحه .

ثانيا ، يجب أن نعي المرحله التي نمر بها ، والتي اقتضت عند العقلاء في جميع التوجهات ولو كانت متضاده ، أن يعرفوا أن الخطر اليوم يقصد الكل وليس فئهة معينة ، فبالأمس كان أصحاب التوجه الاسلامي ، وقبل الأمس على جزئية معينه من أهل التوجه الإسلامي ، ثم صار كل توجه إسلامي ، ثم كل مسلم ولو انخلع عن منهجية الإسلام ، فشعور الكل بهذا أجبرهم على التظافر ، وهذا حسن إلا أنه لن يوصل الأمه إلى حلٍ وحده .

ما تطرحونه هو نفس ما ينادي به جميع العلماء اليوم .. ما الذي يمنعكم من الجلوس وإجراء حوار إسلامي .. إسلامي ؟

بوسعك أن توجه هذا السؤال إلى من يقود زمام الأمور اليوم ، والذي تخدمه الإمكانات الإعلامية والمؤسساتية والمالية ، والذي بدوره يؤجج الصراع في طرحه ثم يتحدث عن الحوار ، وقد كانت هناك محاولات سابقة في أن نصل الى جلوس ، ولعلك تدرك بهذا .. مستوى التعالي في منهجية التخاطب والطرح الذي نعانيه .

وهناك من تكلم طويلا منذ سنوات بأنه ينبغي أن لا يتفرد البعض في الكلام عن الإسلام ، ولا التعامل من منطلق الإرغام في الرأي ،واستخدام الصلاحيات في إرغام غيري على رأيي ، ومن هؤلاء الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي ، وفي بعض كتبه وخلال لقاءاته مع من يختلفون معه في الرأي ، حيث قال تعالوا نجلس ، من الخطأ أن نلتقي في المؤتمرات ويصافح كل منا الآخر وننصرف ونترك شبابنا يتصارعون أو يذبح بعضهم بعضاً في المساجد ، هذا يرى أن هذا مشرك وهذا يرى الآخر مبتدعاً ، فالدعوة هذه مطروحة من قبل أن يأتي الوقت الذي نرغم فيه إلى أن ننصت.

يتردد حاليا مصطلح ” الإسلام السياسي ” .. ما معنى هذا المصطلح .. وكيف تقيمون طريقة استخدام المثقفين له ؟

ما أفهمه أن الإسلام خاطب كلية الإنسان ، وبالتالي فهو يخاطبه بكل ما يحتاج إليه ، والسياسة أحدها ، فهي ليست الأساس ، ولا الرأس ، ولا الكل ، ونفس الوقت ليست المستثناة أو المبعدة ، هذا الحد الوسط الذي ينبغي أن نفقهه .

لكن المسألة تجمع بين مشكلتين كبيرتين ، الأولى تجاوز التخصصات ، وهذا ما نعاني منه هذه الأيام ، فلو أقدم مهندس وأجرى عملية جراحية لأحد المرضى لحوكم وإن نجحت العملية ، لكن أن يأتي مستشار أو صاحب شهادة علميه كبرى في الفن أو الأدب أو التاريخ أو الفيزياء ويتصدى للفتوى أو الكلام على الإسلام ، وتحليل هذا الدين ، وكيف أن هذا يصلح وخلافه باطل ، فلا نرى غضاضة في ذلك!!! . أليس هذا غريبا؟.

ولا نقول أن الدين حكر على أحد ، لكن يجب أخذ العلم الصحيح عن أهله ، فلا تأتي برؤية خارجية وتريد أن تطوع الإسلام لمقتضاها ، ثم تتخاطب مع أهل الدين على أساس ما يرسخ في ذهنك من تصور بنى على قاعدة خاطئة .

الأمر الثاني ، أن نرتفع عن مستوى بناء وجودنا على أساس إزالة غيرنا ، إذا أردت أن تدعوا الى فكرة أو تتبنى منهجا ، يجب أن تفرق بين خدمتك لذاتك وجعل المنهج وسيلة لإبرازك ، وبين خدمتك للمنهج ولو كان على حساب وجودك أنت ، وهذا من الأمراض التي نعاني منها في المجتمع ، من أراد أن يصنع له اسما أو صوتا فليأت الى شئ مشهور أو محترم أو له مكانه بين الناس أو مقدس ويتجرأ عليه فإنها أقرب وأيسر الطرق اليوم للشهرة .

ولا نقبل أيضا أن يستغل أحد الدين لمصلحته السياسية ولا أن يجعله وسيلة لبلوغ أطماعه السلطوية.

تشغل قضية الولاء والبراء بال الكثير كونها المحور الذي يدور حوله الخلاف .. ماذا تقول في هذه المسألة ؟

هذه المسألة من الناحية الشرعية قد فرغ منها، فهي ليست بأمر أستحدث أو فاز ببطولة استنباطه أحد في عصرنا ، لكن الإشكال في كيفية تطبيقها على الواقع ، وروابط المنهج بالواقع ، فمسألة الولاء والبراء أو الحب والبغض في الله لا ينبغي أن أربطها بي ، فمن والاني فقد وإلى الله أو الدين ، ومن عاداني فقد عاد الله أو الدين ، ولا ينبغي أن أجعل فهمي الذي وصلت له اجتهادا أو تعلما أو اجتماعا هو مقياس الولاء والبراء في الوجود ، فمن قام على الفكرة التي أفهمها عن الإسلام صاحب ولاء وبراء ، ومن خالفها فقد خالف الولاء والبراء .

يؤخذ على بعض العلماء تشددهم في الخطاب الموجه للشعوب .. واللين في الخطاب الموجه للحاكم ، مما أدى الى ظهور ما يسمى ( علماء السلطة ) وبالتالي اهتزاز الثقة فيهم ؟

هذه القضية شائكة وواسعة ، لكن ما يمكن قوله أن هناك أمر متعلق بالعالم ، وآخر بالحاكم ، وثالث خاص بالناس ، فالمتعلق بالعالم يفرض عليه أن يفقه أين تكون مواضع الشدة ومواضع اللين ، فلا يجعل شدته ولينه مربوطة بحاكم أو محكوم بل يربطها بالمقاصد الشرعية ومصلحة المجتمع .

وليتم هذا لا بد أن يتوفر للعالم الجمع بين الأخذ والتلقي الصحيح للعلم ، والفهم الراقي للواقع ، وقوة المنطلق الروحي ، القائم على تمحيص وتمحيض الإخلاص لله وإرادته. وتوجهه في معرفة عيوب نفسه ، وأن يفرق بين الغضب للنفس والغضب لله ، والحب من أجل النفس أو من أجل الله ، وأن يقيم أمره على قطع التفات قلبه إلى الخلق ، وأن لا يعول على أحد ، ولا يرى مؤثراً في الوجود غير الله. فلا يطلب بعلمه رضا الحاكم ولا المحكوم مع ملاحظة أن الأصل في المعاملة هو الرفق و لين الجانب و أن الشدة بمنزلة الدواء على قدر الحاجة إليه .

النقطة الثانية تتعلق بالحاكم ، وتنبني عليها صلته بالعالم ، فلا ينبغي أن تكون نظرة الحاكم إلى العالم نظرة المتردد أو المتشكك أو المنزعج ، في المقابل لا ينبغي تحول العالم إلى مطية يصل بها الحاكم إلى ما يريد .

ولتجاوز هذا الى المنهج الصحيح ، يجب على الحاكم أن لا يتعامل مع عالم نظر عينه إلى ما في يده، ولديه مرض الطمع في الدنيا ، مالا أو منصباً أو مكانة ، كما لا يتعامل مع عالم نظر عينه إلى كرسيه الذي يجلس عليه ، فيريد أن يجد الحجة الذي يقتلعه بها ليأخذ مكانه ، ويكون البديل عالم عينه إلى قلب الحاكم ، بإرادة تصويب الصواب وتقويم الخطأ ، العالم الذي ينظر الى الحاكم على أساس الامتثال لأمر الله في طاعة ولي الأمر في غير معصية الله ، في نفس الوقت انقطاع الطمع في الدنيا .

حصول هذين الأمرين ينبني عليه تصويب الخطاب الموجه للعامة ، فمهمة للعالم مع عامة الناس والمجتمع أن تكون علاقتهم بالله لا به ، أن يخدمهم هو ، ليقربهم إلى الله ، ويعينهم للتقرب إليه ، لا أن يستخدمهم لينال المرتبة والمكانة ، وهم بالتالي ينبغي أن تكون نظرتهم إليه لا إلى العصا التي بيده أو العسكري الذي بجانبه ، لأنه عند تغيير هذا الظرف لن يستطيع العالم أن يوجه إلى العامة .

وعليه ينبغي أن ينظر العالم للعامي نظرة أن لديه أمانة ، وأنه مسؤول أمام الله في إيصال الخير للعامي ، ولو كان ذلك على حساب نفسه ، أو على حساب ما يبحث عنه غيره ، كما يجب تقويم آلية نظرة العامي للعالم ، فليس مطلوب من العالم أن يكون المطية التي تبرر واقع العامي المرير ، مع فهم أنه ينبغي للعالم أن يتفهم حالة هذا العامي ، وأن يتدرج معه ، ويتلطف به، ويحسن إيصال الفهم إليه .

هل يفهم من هذا أن الخلل في فهم كل شخصية لدورها هو سبب اللغط الحاصل حالياً حول مفهوم الحاكمية ؟

هو أحدها ، وللخروج من ذلك يجب أن نعود للحكمة التي تقول ( أعطي القوس باريها ) ، أنتم العلماء ينبغي أن يكون ما تخرجون به مبني على الاستقلال لا على التبعية ولا الاستغلال ، وأنت أيها الحاكم ينبغي أن لا يقلقك هذا ، فمهمة العلماء نقل حقيقة أمر الله وحكم الله في شأن ما ، ومهمتك أن تربطه بالواقع .

فإن حاول العالم استغلال أنه المبلغ لأمر الله ، وجعل من هذا وسيلة لتحريض الشارع على الحاكم ، أو استغلال حاجة الحاكم للفتوى ليحصل في المقابل على المال ، فهذا باطل ، وإذا استمر الحاكم في الخشية على نفسه وعلى الشارع من العالم ، أو فكر كيف يوقعه في شباك إنفاذ ما يريد ، فلن يستقيم المجتمع ، حيث أن الأمة بحاجة إلى تصحيح صورة الاثنين معاً على نهج راقي ، ومعرفة أن ذلك سيخدمهما في تثبيت الحكم، وإظهار أمر الله عز وجل سيخدم الناس بإرتقاء المجتمع .

يرى البعض أن كبار العلماء المعاصرين غارقين في تفاصيل العلم الشرعي دون الالتفات إلى المشاكل الكبرى للأمة الإسلامية ، هل توافق على هذا ؟

هذا الطرح يحتاج الى شئ من التوقف ، أولا : الأمة ما تزال في حاجة الى تفاصيل العلم الشرعي ، كون أن هناك جهل كبير- حتى في أوساط بعض المثقفين- بما يجب معرفته من الدين بالضرورة .

ثانياً : الخوض في الجوانب التي يحتاج إليها الناس ومن ثم علاجها علمياً أو واقعياً ، يقتضي تخصص العلماء ، فليس مطلوبا من كل عالم أن يفقه في كل شئ أو يخوض في أي شئ .

ثالثا : آلة إيصال صوت العالم إلى من حوله هي الآن ليست في يده ، وإنما في يد الدولة أو الإعلامي ، ولذلك أرى أنه لو كان للعلماء الصوت الكافي القائم على أساس صحة المرجعية ، لبدى للأمة الكثير من المخاطبات التي تستوعب مشاكلها ، لكن هناك خلفيات وظروف جزء منها فرض على العلماء والجزء الآخر ُيخاطب العلماء في الإنتهاض إليه .

تحديات العصر الجارية كيف يمكن استيعابها من خلال مصادر التشريع الأسلامي ؟

من خلال بناء الذات .. فالإسلام من أسرار صلاحيته لكل زمان ومكان أنه خاطب الإنسان بكُله ، وكل تلقي للإسلام يقتصر على جزئيه الإنسان ، إما عقلا أو عاطفه أو سلوكا دون استيفاء الجوانب الأخرى ، يورث هذا القصور الذي نراه اليوم . لذلك نحن بحاجة إلى أن نسمع خطاب الإسلام بكُله وبكُلياتنا ، فإذا ما قابلت كُلياتنا كُلية خطاب الإسلام ، لوجدنا فيه ما يستوعبنا ويستوعب بناء العالم المحيط بنا من حولنا .

اختلطت العادة بالدين ، وبات الكثير يجل العادات والتقاليد على أنها ذات طابع ديني ملزم .. كيف نستطيع الفصل بين النص الديني والتقاليد المتوارثة ؟

لا شك في أن الحرج قائم ، طالما أننا لا نفرق بما هو دين وما هو عاده ، فالعادة فيها ما هو صواب وما هو خطأ ، والعادة الصحيحة لا تضاد بينها وبين الدين ، والقول بأن بقاء الدين بإلغاء العادة قول خاطئ ، وكذلك القول احترموا العادات ولو على حساب الدين خطأ أيضاً ، وكلاهما تطرف .

الوسط الصحيح لهذه المسألة الذي ينبغي أن يقوم بيننا ، أن الدين جاء وفي الجاهلية عادات حسنة وأخرى قبيحة، فحسن الحسن وقبح القبيح ، والدين لم يكن يوما من الأيام نقيضا للعادة ، لكنه جاء ليقومها ، ويضعها على الجادة ، فإذا تخاطبنا من هذا المنطلق وراعينا منهجية التدرج فيما يمكن التدرج فيه ، وأن الذين أمامنا هم بشر لهم نفوس وليسوا بآلات ، نكون قد وضعنا أيدينا على الخلل مباشرة ، ونحتاج الى تدرج وتلطف في إيصال الناس إلى المطلوب نريد للخروج عن قبيح العادة، وأخيراً يجب أن لا أجعل تصويب الدين للعادة عادة، وإنما أرتقي بها إلى مستوى العبادة.

ما الحكمة في محاولة إحياء الصوفية الآن ؟

أولا ، التصوف أصل من أصول الدين ، وعلم من علوم الشريعة الأساسية، فعندنا التوحيد والفقه والتصوف ، أما الكتاب والسنة فهما مصادر ومراجع .. جاء العلماء واستنبطوا علم يتعلق بالعقائد فسموه علم التوحيد ، وهو ما جاء مجملا في أركان الإيمان ، وعلم الفقه المعني بالحلال والحرام في العبادات وتعاملات الخلق ، والذي جاء مجملا في أركان الإسلام، وعلم يتعلق بإصلاح القلوب وهو التصوف المستقى من ركن أو ركني الإحسان .

فهو علم من العلوم الشرعية الأصلية ، وليس بحادث أو مبتدع أو جديد ، والذي يقرأ بتأمل وإنصاف في كلام حفاظ الحديث وكبار فقهاء الأمة في كتب الطبقات والتراجم للأئمة ، سيجد أن كلمة صوفي كانت تستخدم للثناء والمدح ، وإبراز رقي الإمام الذي سيتحدث عنه ، وبالرجوع إلى سير أعلام النبلاء للإمام الحافظ الذهبي أو صفة الصفوة للإمام الحافظ ابن الجوزي ، أو إلى طبقات الحنابلة والشافعية وغيرها من التراجم المصنفات ، تجد أنهم إذا أرادوا أن يمدحوا شخصاً سموه بالصوفي .

تأتي بعد ذلك مسألة التأصيل ، والقول أن كلمة تصوف لم تكن موجودة أيام الصحابة ، فنقول : لا مشاحة في الاصطلاح ، وأكثر علوم الشريعة التي سميت الآن لم تكن موجوده بأسمائها ، فلا يوجد جرح ولا تعديل ، ولا أصول ، ولا مصطلح ، ولا قواعد فقهية ، وهذه الأسماء مستحدثة ، فهل آتى الآن وألغيها لأنها لم تكن موجودة ، أو لأنه اصطلح على تسمية هذا الشئ بهذا الإسم .

فالإسم ليس فيه ما يخالف الشريعة ، والمسمى ننظر إليه ، هل هو صواب أم خطأ ، فلو أتينا إلى كلام أهل العلم ، سنجد أنهم يقولون أن التصوف هو العلم الذي يعنى بإصلاح القلوب ، وعندها سيقولون إن الكتاب والسنة فيهما ما يكفي لإصلاح القلوب ، وهنا سنقول إن فيهما أيضاً ما يكفي لإثبات الصحة والخطأ من الكلام الوارد عن الله ورسوله ، فلماذا نأتي بعلم الجرح والتعديل ، وفيهما ما يكفي لكيفية أخذ الأحكام ، فلماذا نخترع علم نسميه علم الأصول ، والإتيان بهذا الكلام يدل على سطحية في الذي يقوله ، وعلى حاجته إلى أن يرقى الى مستوى فهم ما كان عليه السلف ، ومنهجية السلف .

وفيما يتعلق بأثر التصوف ودور التصوف ، فالمنصف في قراءة تاريخ الأمة يرى أن رواد الاقتصاد في العالم الإسلامي على مر العصور هم الصوفية ، وكذلك رواد النهضة العلمية الشرعية من الصوفية ، النهضة العلمية المادية التجريبية في عصر النهضة الاسلامية قامت على الصوفية ، رواد الجهاد في سبيل الله من المتصوفة ، ولا يستطيع أحد أن يذكر الجهاد وينسى عبد القادر الجزائري ، المرابطين ، عمر المختار ، والمجاهدين الذين قاوموا الاستعمار الفرنسي في الشام ، وهؤلاء من أئمة التصوف في بلادهم .

أما السر في الحديث عن التصوف ومحاولة إحيائه من جديد ، فإن هذا الطرح يحمل جانبين مهمين ، الأول : يردده البعض ، وهو أن التصوف جئ به من الخارج ليكون بديلاً للتوجه الموجود الآن . وهنا أتعجب حينما أجد من أهل الدعوة الإسلامية من يقول هذا الكلام متجاهلا التاريخ والواقع الإسلامي ، ولنا أن نسأل المستعمر غير المسلم الذي جاء من الخارج ، أيُّ المدارس حارب؟ هل حارب المدرسة الصوفية أم حارب المدارس المعارضه لها إن كانت موجودة اصلا في ذلك الوقت.

فكيف يتأتى أن يحاربني المستعمر بالأمس ويقتل رجالي ثم أقبل أن يقال أنه جاء اليوم ليستخدمني كوسيلة ، في الوقت الذي كانت أرض الإسلام ترضخ تحت ثقل الاستعمار ، وكان الصوفية يضربون ، ومن يخالفهم يفسح له المجال .

الأمر الثاني : الصوفية لم تنتهي ولم تغب ، وأتباعها مازالوا هم الأكثر في العالم الإسلامي ، وإن غابت عن ذهن البعض ، فبسبب ظرف البلاد التي ينتمون إليها ، فلم يغب صوتهم لعجز عن أداء الدور ، لكنه غيب عنوة ، حيث اقتضى التوجه لدى بعض المؤسسات الدينية المسيطرة أن لا يسمح لصوتهم بالظهور .

وفي المقابل نحن نعترف أنه يوجد الكثير من الخلل والخلط في صفوف من يدعي الانتماء الى التصوف اليوم ، والكثير من الانحراف في طرح التصوف ، والسبب في ذلك يرجع الى أن أهل التصوف الحقيقين الذين تلقوا التصوف علما وعملا وذوقا عن أئمته يُمحوا ويفسح المجال أمام أضدادهم .

نحن الآن في مرحلة نحتاج فيها أن نرجع الى منهجية صحيحة ، ونكف عن مسألة التراشق أو الترامي بالتهم ، ومن يريد العلم فليقرأ مقدمة الامام النووي في صحيح شرح مسلم ، ستجده إذا أراد أن يذكر سنده إلى مسلم لا يكاد يخلي كثيرا من كبراء من يروي عنهم إلا ووصفه بالصوفي.

والذي أقوله أن التصوف قادم بوجهه الصحيح على الأمة ، لأن أهل التصوف الصادقين بعد أن أوذوا وحصل لهم ما حصل بدؤوا الآن يستعيدون وجودهم ، لا لينازعوا أحدا، ولا ليبحثوا عن مكانة أ وشهرة ، كون منهجهم بعيدا عن طلب ذلك، والأصل فيهم الخدمة ، ولكنهم قادمون وبقوة ، ليس في منهج واحد من مناهج التصوف أو في بلد واحد ، لكن على مستوى العالم الإسلامي ، فهناك انتهاضه لن يستطيع أن يوقفها أحد ، والصادق فيمن يخالفهم فليأت وليحاور، ولينأ بنفسه عن مستوى إلقاء التهم من فوق الأبراج ، فلديهم الكثير من الحلول للمشاكل الموجودة اليوم ، لأن منظورهم في الخطاب هو المنظور القائم على تزكية النفس وتهذيبها، وهو الحل لأس المشاكل التي نعانيها اليوم في مجتمعاتنا بمختلف تنوعها وتوجهاتها .

كيف تفهمون موقف المعادين للصوفية ؟

أعتقد أن هناك مبررات باطنة وأخرى ظاهرة ، الباطنة لا أعلمها كوني لست مطلعا على الغيب ، أما المبررات الظاهرة فتعود للفهم الخاطئ للتصوف ، وعلماء الأصول يقولون الحكم على الشئ فرع عن تصوره ، والتصور الخاطئ للشئ يورث العداوة أو الموالاة غير الصحيحة ، كذلك القفز إلى كتب من انتسب الى التصوف من القدماء والمتأخرين ولأئمة التصوف رأي في كتبهم ، ثم محاسبة الصوفية على أن هذا هو التصوف كأراء ابن سبعين وابن عربي وغيرهم .

الأمر الآخر مخاطبة الصوفية بمن ادعى الانتساب اليهم، ومحاسبتهم على هذا الاساس ، مع أن هذا لم يصح، لأنه ما من علم من علوم الشريعة إلا وقد دخله ما ليس منه ، ولكن قيض الله من اهله من ينبهون الى ذلك حتى يبقى نقياً. فعلم التوحيد فيه المعطلة والمجسمة والحشوية ، وعلم الحديث فيه الوضاعون والكذابون ، وعلم الفقه فيه فقهاء السلطان وجميعهم على باطل .

فلا يتأتى أن يكون هذا مبرر لضرب العلم ، أو محاربته.
وربما الشعور بنشوة القدرة والقوة وأن الذي أمامي لا يستطيع أن يحاربني فيها ، جعل البعض يتمادى في الافتراءات عليها.

وعلى مستوى خارج التصوف قد التمس العذر لمن يهاجم التصوف اليوم بسبب ما يراه من ادعاءات باسم التصوف ، ولكن يجب أن لا يطول العذر له، فإذا وجد من يقول له تعال أخاطبك عن حقيقة التصوف، وأكلمك عنه فلا تأتيني بأحكام مسبقة ، ولا تأتيني بتصورات تظن فيها العصمة، ولا تأتيني لتقنعني فقط ، تعال لتقنعني ولتنصت أيضاً ، فرما يكون عندي ما تحتاج أن تقتنع أنت به وبهذا نخرج من هذا المأزق .

يرجع بعض المفكرين الإسلاميين أسباب التشدد الذي نراه اليوم إلى تغيب دور الحرمين الشريفين لصالح مؤسسات تعليمية حديثة ؟

أولا ما معنى التغيب ؟ ومن الذي تغيب وقبل أن نلقي بالتهمة على الحاكم أو التاجر أو الإعلامي الى أن نصل الى بيت العلم والدين ، دعني أسأل سؤالا ، ماذا يحدث عندما أجلس في الحرم وأفرض منهجي في التدريس وأمنع منهجا آخر ، واستعين بمن استطعت لتحقيق ذلك ، من منطلق قطرية أو عصبية مذهبية.

هناك عوامل كثيرة للتغييب ، جزء منها متعلق بالسياسة ، وجزء بالاقتصاد وجزء بالاجتماع ، لكن لن أتكلم عنها لأن البداية تكون عندما يعود أهل العلم للإتساع لبعضهم البعض ، واستيعاب بعضهم البعض ، عندها ستختفي هذه المشاكل ، وهذا لا يعني أن المسؤولية وحدها تقع على العلماء ، فكثير من المواقف والظروف كان العلماء أيضا مجني عليهم ، ولكن لنبدأ عندنا ثم نخاطب الغير .

برواز سيرة الضيف :

ولد الحبيب علي زين العابدين الجفري ، الذي يعود نسبه الى الحسين بن علي بن أبي طالب و سبط رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، في مدينة جدة السعودية ، العام 1391هـ الموافق 1971م، وهو متزوج من زوجتين وله ثلاث بنات وابن واحد .

ولقد تلقى تعليمه في مدرسة الثغر النموذجية بجدة ، ولازم الدروس الدينية عل يد العلامة الحبيب عبد القادر بن أحمد السقاف وغيره من كبار العلماء الحضارمة ، وكان سريع التجاوب مع نهجهم شديد الملازمة لهم علما وسلوكا ، كما تأثر بعمة والدته صفية بنت علوي الجفري التي كانت تحدثه عن السلف وتحبب اليه الخير والصلاح .

وبعد تحقيق الوحدة بين شطري اليمن عاد الى بلده، وانتسب إلى جامعة صنعاء كلية الآداب قسم الدراسات الإسلامية إلى جانب دراسته في رباط البيضاء، حيث لازم العلامة الحبيب عمر بن محمد بن سالم بن حفيظ.

لم يستمر في جامعة صنعاء أكثر من عامين بسب نوعية المناهج التي كانت تدرس بفرضها على أنها الرأي الصحيح ، وما عداها باطل ، وهو ما ظن أنه يتعارض مع المذاهب السائدة في اليمن ، التي تعطي مساحة لتدريس المذاهب الأخرى لتوسيع مدارك المتلقي . منذ العام 1994 انتقل الى تريم في حضرموت ليلحق بشيخه ابن حفيظ الذي أسس دار المصطفى للدراسات الإسلامية ليعمل محاضراً وعضو مجلس إدارة .

مضى الحبيب علي زين العابدين 12 عاما وهو يجوب البلدان ، من جنوب شرق آسيا وسيرلانكا الى كندا مروراً بشرق أفريقيا ودول الجزيرة العربية ومصر والسودان والأردن وسوريا ولبنان وعدد من بلدان أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية داعياً الى الله بالكلمة الطيبة والموعظة الحسنة ، كما له محاضرات ودروس ومجالس الى جانب عشرات البرامج التلفزيونية والإذاعية والكثير من الأشرطة الصوتية والفيديو.

© 2014 TABAH WEBSITE. All rights reserved - Designed by netaq e-solutions