للأعلى
01-مارس-2008

مسلسل الإساءات.. وسنة المواقف (1-2)

     كلنا سمعنا عن التكرار والتسلسل في الاجتراء علي الله ورسوله في وسائل الإعلام في بعض الدول الغربية، من محاضرة البابا سيئة السمعة إلي إعادة نشر ١٧ جريدة دنماركية الرسومات الكارتونية المسيئة بشيء من التعمد والتواطؤ، فما موقفنا إزاء تلك الإساءات؟!، وهل يجوز للمسلم أن يقف موقف المتفرج وكأن الأمر لا يعنيه من قريب أو بعيد؟، فمن بلغه شيء من ذلك ولم يتحرك قلبه بالغيرة والتأثر والانفعال والحب لرسول الله فعليه أن يراجع إيمانه بالله وبرسوله، لأنه أمر يشكل أصل الإيمان ومقياس القرب من الله عز وجل.

     كذلك هل تكون مقابلة هذه الأمور بإطلاق العنان للعاطفة من صياح وصراخ وحرق للسفارات والأعلام، أو حتي بمقاطعة للمنتجات، ونبرئ ذمتنا عند ذلك تجاه رسول الله، أم أن الواجب علينا هو أمر أكبر وأجل وبقدر مقام وحب رسول الله فينا؟

     أستأذنكم بداية أن نطرح الأمر علي هيئة الخواطر المتواردة التي تخاطب القارئ من داخله، وأول ما يطرأ علي البال والخاطر هو: هل حصل شيء من تلك الإساءات في عصر الرسول عليه الصلاة والسلام؟ وهل سمع النبي صلوات الله وسلامه عليه نوعاً من السب والشتم والاتهام أم لم يحصل؟ فإن كانت قد حدثت فكيف كان تصرف النبي صلي الله عليه وسلم؟ لأن هذا التصرف هو معيار ومقياس ضبط تصرفاتنا وانفعالاتنا وأفعالنا تجاه ما يحدث، وما قد يحدث مستقبلاً من إساءات وافتراءات.

    إن الاستقراء الأولي للسيرة النبوية العطرة يطلعنا علي أن هناك صنوفاً مختلفة ومتعددة من الإساءة تعرض لها الرسول عليه الصلاة والسلام، منها أن بعض يهود المدينة كانوا يدخلون عليه ويقولون: السام عليك، أي الموت والهلاك، فيرد الرسول عليه الصلاة والسلام بقوله: وعليكم، حتي غضبت السيدة عائشة أم المؤمنين، وردت عليهم «السام عليكم ولعنكم الله وغضب عليكم» فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم: «مهلاً يا عائشة عليك بالرفق وإياك والعنف أو الفحش، قالت: أو لم تسمع ما قالوا؟ قال: أو لم تسمعي ما قلت؟ رددت عليهم فيستجاب لي فيهم ولا يستجاب لهم في». (صحيح البخاري ٥/٢٣٥٠ برقم ٦٠٣٨).

    وهناك موقف آخر تجرأ فيه كعب بن الأشرف علي رسول الله سباً وشتماً وتحريضاً بكلماته وبتحالفه مع قبائل العرب، وتشبيباً بنساء المؤمنين، فبعث الرسول إليه من قتله، ففي سنن أبي داوود: «كان كعب بن الأشرف يهجو النبي صلي الله عليه وسلم ويحرض عليه كفار قريش، وكان النبي صلي الله عليه وسلم حين قدم المدينة، وأهلها أخلاط منهم المسلمون والمشركون يعبدون الأوثان، واليهود،

   وكانوا يؤذون النبي صلي الله عليه وسلم وأصحابه، فأمر الله عز وجل نبيه بالصبر والعفو، ففيهم أنزل الله (ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم) الآية، فلما أبي كعب بن الأشرف أن ينزع عن أذي النبي صلي الله عليه وسلم، أمر النبي صلي الله عليه وسلم سعد بن معاذ أن يبعث رهطا يقتلونه» (سنن أبي داوود ٢/١٤٤ برقم ٣٠٠٢ وسنن البيهقي الكبري ٩/١٣٨ برقم ١٨٤٠٨مثلما أهدر الرسول عليه الصلاة والسلام دم الشاعر كعب بن زهير، وذلك قبل أن يسلم.

    ونقرأ في صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري قال: بينا نحن عند رسول الله صلي الله عليه وسلم وهو يقسم قسماً، أتاه ذو الخويصرة، وهو رجل من بني تميم فقال: يا رسول الله اعدل. قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: «ويلك ومن يعدل إن لم أعدل قد خبت وخسرت إن لم أعدل». (وفي رواية أخري قال: إني أري قسمة ما أريد بها وجه الله فقال صلي الله عليه وسلم أيأمنني الله في السماء ولا تأمنونني») فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: يا رسول الله ائذن لي فيه أضرب عنقه. قال رسول الله – صلي الله عليه وسلم -: «دعه» (صحيح مسلم ٣/١٢٢ برقم ٢٥٠٥).

    ونحفظ كذلك مواقف سيدنا حسان بن ثابت في الرد علي من هجا رسول الله عليه الصلاة والسلام وإقامة الحجة بالحجة، إذ كان الشعر هو إعلام العصر والزمان، مؤيداً في ذلك بأمر رسول الله وبالروح القدس، فعن السيدة عائشة أم المؤمنين أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: اهجوا قريشاً فإنه أشد عليها من رشق بالنبل، فأرسل إلي ابن رواحة، فقال: اهجهم، فهجاهم، فلم يرض، فأرسل إلي كعب بن مالك، ثم أرسل إلي حسان بن ثابت، فسمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول لحسان: إن روح القدس لايزال يؤيدك ما نافحت عن الله ورسوله. وقالت سمعت رسول الله صلي الله عليه وسلم يقول: «هجاهم حسان فشفي واشتفي» (صحيح مسلم ٧/١٦٤ برقم ٦٥٥٠).

    فهذه وغيرها كثير من مواقف النبي في التعامل مع صنوف الإساءة والاعتداء والشتم والتشويه والتحريض، فهل ثمة قاسم مشترك أو معيار لتصنيف الحالاتفيما يسمي سنة المواقفنفهم منه حقيقة التعامل مع حالة الإساءة الراهنة، أم أن المسألة تركت هكذا دون ضبط أو نظر؟

   لا شك في أن للمسألة ترتيباً ومعياراً في الشرع، وعندما تأملت في السيرة النبوية وجدت أن الحالات التي أمر فيها الرسول عليه الصلاة والسلام بالقتل، انحصرت في نوع واحد من الحالات، ألا وهي تلك التي اجتمع فيها شرطان: أن يكون في التهجم علي رسول الله نوع اقتران بتحريض الآخرين علي القتل وسفك الدماء أولاً، والشرط الآخر هو أنه يترتب علي قتل الواحد حقن لدماء الطرفين من المسلمين وغير المسلمين وحلفائهم ثانياً، وتلك حالة كعب بن الأشرف.

   فهذا الرجل – الذي يسميه الإمام مسلم وبعض المفسرين طاغوت اليهود – كان في قتله حقن لدماء المسلمين واليهود ومن حرضهم من قبائل العرب، وهو ما ذكره أبو داوود في سننه بقوله: «فلما قتلوه فزعت اليهود والمشركون فغدوا علي النبي صلي الله عليه وسلم، فقالوا: طرق صاحبنا فقتل، فذكر لهم النبي صلي الله عليه وسلم الذي كان يقول، ودعاهم النبي صلي الله عليه وسلم إلي أن يكتب بينه وبينهم كتاباً ينتهون إلي ما فيه، فكتب النبي صلي الله عليه وسلم بينه وبينهم وبين المسلمين عامة صحيفة» (سنن أبي داوود ٢/١٤٤ برقم ٣٠٠٢).

   ومن ثم فالحالة الوحيدة التي تحول فيها الأمر إلي قتل جزاء الإساءة هي حالة إخلال حربي بالعهد الذي بينه وبين رسول الله عليه الصلاة والسلام، والخروج عن معني الموادعة إلي التحريض والتأليب علي القتال، وكان في هذا القتل حقن لدماء كل الأطراف، بدليل تجديد العهد الذي كان بين النبي وبين اليهود. ففي غير هذه الحالة بشروطها لا ينبغي أن يطرح القتال خياراً.

    والحالة الثانية هي التي اهتم فيها رسول الله عليه الصلاة والسلام بالأمر وأذن لمن يرد ويناجز ويوضح ويدافع، وهي التي اقترنت فيها الإساءة بنوع تشويه للدين والرسالة مع تحريض الآخرين علي الإعراض عن الدعوة والرسالة، بل كان فيها من التحريض علي القتال أحياناً، ولكن لم يكن في اللجوء إلي القتل حقن للدماء، لذا لم يصل فيها أمر الرد إلي حد القتل.

    ووجدنا حالة ثالثة اكتفي فيها النبي عليه الصلاة والسلام برد مقتضب، فيه من الإعراض عن المسألة من أصلها أكثر مما فيه من رد، وكأن علاج أمر الإساءة في الإعراض وعدم الالتفات إليه، إذ لا قيمة لها.

   والآن إذا رجعنا إلي تكرار مسلسل الرسومات المسيئة، ففي أي الحالات الثلاث السابقة تصنف؟ هذا ما يحتاج منا إلي بعض التفصيل في الظروف المحيطة بتكرر مسلسل الإساءات وعمن تصدر؟ وما هو موقفنا من تلك الحالة بالنظر إلي الأنواع السابقة أخذاً وتطبيقاً لسنة المواقف؟

 مواقع أخرى

© 2014 TABAH WEBSITE. All rights reserved - Designed by netaq e-solutions