للأعلى
09-ديسمبر-2013

لماذا «مانديلا»؟

خاطرة الإثنين حول العمق القِيَمي لمسيرة .. والتخلّف المُضني عن السيرة..

الحمد لله

 لا تقتصر القِيَم التي أحياها “مانديلا” على قيمة نضاله ضد العنصريين، فقد سبقه إلى ذلك في جنوب أفريقيا الشيخ المناضل “عبد الله هارون” الذي مات تحت سياط التعذيب في السجن..

لكن القيمة العظيمة التي أحياها “مانديلا” هي أنه علّم شعبه، بل أعطى درسًا للعالم المعاصر في كيفية تعامل المنتصر مع من عذّبوه واعتدوا عليه بالعفو والسماحة، وكيف يتجاوز القائد بشعبه مضيق التوقف عند الماضي ليَبني معهم المستقبل.

بينما نسينا “نحن” قول سيدنا صلى الله عليه وآله وسلم يوم انتصاره لكُفّار قريش الذين آذوه وعذبوا أصحابه: “اذهبوا فأنتم الطلقاء” فكان ذلك سببًا في دخولهم الإسلام وإسهامهم في نشر قِيَمه السامية في أرجاء العالم١.

  •  مانديلا عاش مفهوم “عالمية الإنسانية” وجدّده في عصرنا، فلم يقتصر على التفاعل مع قضية شعبه، بل استشعر آلام المظلومين في الأرض دون أن يُفرق بينهم على أساس ألوانهم أو عناصرهم أو بلدانهم أو أديانهم، فدعم القضية الفلسطينية في المجتمع الدولي وقارن بين نضال الفلسطينيين ونضال السود في جنوب أفريقيا؛ كما استصدر بيانًا من مجلس حكماء العالم يدين فيه حصار غزة، ووصف هجوم الكيان الصهيوني على سفينة السلام المتوجّهة إلى غزّة بأنه لا يُغتفر أبدًا؛ وعمل على وأد فتنة بوروندي والحرب التي ذهب ضحيتها أعداد هائلة من البشر، فنجح في إجراء المصالحة بين الأطراف المتصارعة فيها؛ ووقف ضد احتلال أمريكا للعراق وهاجم بوش الابن بالرغم من أن الأخير كان قد كرّم مانديلا بوسام الحرية الرئاسي في نفس العام، فاتّهم بوش بأنه يريد أن يُغرِق العالم في هولوكوست جديد، وأنه ذاهب إلى العراق من أجل النفط، وذكّره بانتهاكات أمريكا القديمة لحقوق الإنسان بإلقاء قنبلتين ذريتين على هيروشيما ونجازاكي.

ونسينا “نحن” أن سيدنا صلى الله عليه وآله وسلم وقف لجنازة يهودي، وأجاب على من قال له: “إنّه يهودي” بقوله: “أليست نفْسًا”؟٢

وأنه صلى الله عليه وآله وسلم أثنى على حِلف الفُضول وهو حلفٌ عُقِد في الجاهلية لنصرة المظلوم فقال: “لقد شهدتُ مع عمومتي حِلفًا في دار عبد الله بن جدعان ما أُحب أنّ لي به حُمر النَعَم، ولو دُعيت به في الإسلام لأجبت” ٣.

  •  مانديلا حارب العُنصرية باعتبارها رذيلة ولم يجعل حربه مقتصرة على عُنصرية البيض بل رفض أن يُقابل السود هذه الرذيلة بمثلها تجاه البيض فقال: “طوال حياتي وهبت نفسي لصراع الأفارقة وحاربت ضد هيمنة ذوي البشرة البيضاء، وضد هيمنة ذوي البشرة السوداء أيضًا، وقد قدّرت فكرة الديمقراطية وحرية المجتمع حيث تعيش البشرية في تناغم ومساواة في الحقوق، وهي مبادئ أتمنى الحياة من أجلها، ولكن لو كانت إرادة الله فأنا مستعد أن أموت من أجلها”.

ونسينا “نحن” أن سيدنا صلى الله عليه وآله وسلم رفض أن نجعل من ظُلم الآخرين لنا مُبرّرًا للاعتداء على أبناء عرقهم أو دينهم فلم يجعل من خيانة يهود بني قينقاع وبني النضير ويهود خيبر مُبرّرًا للاعتداء على كل يهودي في المدينة فتوفي صلى الله عليه وآله وسلم ودرعه مرهونة عند يهودي مقابل طعام اشتراه منه، فلم يُقاطعه ولم يستحلّ ماله بتبرير أن أبناء عرقه ودينه قد اعتدوا وخانوا٤.

  •  مانديلا أدرك أن الكراهية والبغضاء والعنصرية هي التي تسبّبت في سجنه ٢٧ سنة فقرر أن يتخذها عدوًا لدُودًا عِوضًا عن أن يجعل حربه دائمة مع الذين ابتُلوا بها وتسبّبوا في نشرها، بمعنى أنه قرّر أن تكون حربه على المرض وليست على المريض، فقال: “عند خروجي من السجن أدركت أنّي إن لم أترك كراهيتي خلفي فإنني سأظل سجينا”، وقال: “كنت على علمٍ بأن الناس يتوقعون منّى شعورًا بالحَنَق تجاه البيض، لكنني لم أكن أحمل ضغينة نحوهم إطلاقًا. لقد خفّ حَنَقي تجاه البيض داخل السجن، ولكن بُغضي للنظام العنصري تضاعف. كنت حريصًا أن تَعْلَم جنوب أفريقيا أنني أُحِب حتى أعدائي مع كراهيتي للنظام الذي خلق تلك العداوة بيننا”.

ونسينا “نحن” أن سيدنا صلى الله عليه وآله وسلم حذّرنا من البغضاء وسماها “داء الأمم” فقال: “دَبّ إليكم داءُ الأمم قبلكم الحسد والبغضاء، والبغضاء هي الحالقة حالقة الدين لا حالقة الشعر”٥.

كما نسينا قوله صلى الله عليه وآله وسلم: “صِلْ من قطعك وأعطِ من حرمك واعفُ عمن ظلمك”٦.

  •  مانديلا أدرك أهمية صلاح القلب، وأنّ العقل وحده لا يكفي لإدارة شؤون الحياة إذا كان القلب فاسدًا، ففساد القلب يُحوِّل قوة العقل إلى أداة فساد في الأرض فقال: “العقل الصالح والقلب الصالح توليفة هائلة دائماً”.

ونسينا “نحن” قول سيدنا صلى الله عليه وآله وسلم: “إنّ في الجسد مُضغة إذا صلحت صلُح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب”٧.

  •  مانديلا كان أول بيت يدخله بعد أن أمضى ٢٧ سنة في السجن هو بيت صديقه “المسلم” وزميله في النضال ومحاميه المدافع عنه “دولّه عمر” فلم يكن ليجعل من انتصاره وشهرته مبررًا لتبنّي التعالي على الآخر والمكسو بثوب التديّن الزائف.

ونسينا “نحن” أنّ سيدنا صلى الله عليه وآله وسلم تذكّر عقب انتصاره في غزوة بدر رجلاً لم يدخل الإسلام لكنّه دافع عنه يوم عودته من الطائف وتبنّى حمايته من بطش الكفّار وذكر أنه لو كان حيًا وتشفّع في أسرى الكفّار لقبل ذلك منه وأطلق سراحهم إكرامًا له٨.

كما نسينا أنّ حسان بن ثابت شاعر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نظم أبياتًا في رثاء “الكافر” مطعم ابن عدي ومدحه فيها مدحًا عظيمًا٩.

  • مانديلا قاتل مَن قاتلوه واعتدوا على شعبه بالقتل والاستعباد والتمييز العنصري، وشق طريقه عبر النضال المُسلّح عندما اضطُّر إليه، لكنّه لم يجعل من القتل وسفك الدماء منهجًا ثابتًا للنضال، بل صرّح بعد خروجه من السجن بأنّه مستمرٌ في النضال المُسلّح لأن أسبابه لم تنته، لكنّه أكد بأنه لجأ إلى النضال المُسلّح لكونه هو الوسيلة الوحيدة المُتاحة أمامه لدفع العنصريين إلى التوقف عن القتل، وأنه بمجرّد قبول النظام العنصري للمفاوضات السلمية سيوقف القتال، وهذا ما التزم بتطبيقه، فقاوم نزعة الانتقام وواجهَ بِحَزمٍ شديد عمليات العنف فقال: “مالم تواجَه ظاهرة العنف مواجهة حازمة وحاسمة فإنّ الأمل في إحراز أي تقدم نحو نظام سياسي جديد سوف يظل مهزوزًا”.

ونسينا “نحن” أن سيدنا صلى الله عليه وآله وسلم سارع إلى قبول صلح الحديبية بالرغم من شروطه الظالمة، لأنه سوف ينقل الصراع من مرحلة العنف المُسلّح إلى مرحلة الدعوة السلمية في حال التزام كفّار قريش ببنوده، وواجه بحزم من لم يتقبّلوا هذا الصلح من أصحابه رضي الله عنهم.

كما نسينا أنه صلى الله عليه وآله وسلم أصدر عفوًا عن المجرمين الذين أهدر دمهم ولو تعلّقوا بأستار الكعبة بمجرد أن تمكّن من فتح مكة وانتهت فرصتهم في جرّ قومهم إلى مواجهات دامية، ولم يكن قد قُتِل منهم إلا ثلاثة، فكان ممن عفا عنهم عكرمة بن أبي جهل، فرحب النبي به، ونهى المسلمين عن ذكر أبيه بسوء رعاية لمشاعره، بالرغم من أن أباه كان أشدّ الناس عداوة للنبي وأكثرهم تحريضًا على قتال المسلمين.

وأخيرا..

لأجل هذه القيم وأمثالها احترم العالم “مانديلا” وتأثروا به حيًا وميتًا، وبها وحدها يمكن أن يكون لنا دَورٌ حقيقي في نفع البشرية جمعاء، وبها ننال رضوان الله، وتَقَرّ بنا عين حبيبه ومصطفاه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وبدونها لن يكون لنا قيمة في الدنيا ولا منزلة رفيعة في الآخرة.

{وإنّكَ لَعلى خُلقٍ عظيمٌ}.

اللهم اهدنا إلى مكارم الأخلاق ورُدّنا إلى هدي حبيبك المصطفى مَرَدًّا جميلاً.. يا هادي يا رشيد.

——————-

١. ابن إسحاق في السيرة، ونصَّ الحافظ ابن حجر على تحسينه في الفتح.

٢. البخاري ومسلم.

٣. حديث صحيح رواه أحمد في مسنده والبخاري في الأدب المفرد وغيرهما.

٤. رواه البخاري ومسلم.

٥. حديث حسن لغيره رواه أحمد في مسنده والترمذي وابن عبد البر في التمهيد

٦. حديث صحيح رواه أحمد في مسنده.

٧. البخاري ومسلم.

٨. السيرة النبوية للحافظ ابن كثير.

٩. الأبيات هي:

أجرتَ رسولَ اللهِ منهم فأصبحوا     عـبادك ما لَبَّى مــُـحــــلٌّ وأحــــرمــــا

فـلو سُئِلت عـنه مَعْـدٌ بأسرِها         وقحطان أو باقي بقيّةَ جُرهُما

لقالوا هو المُوفِي بِخَـفْرَةِ جارِهِ          وذِمَّتهُ يوما إذا ما تجَشّما

وما تطلعُ الشمسُ  المُنيرة فـوقَهم       على مِثلِهِ فِيهِم أعزَّ وأكرما

إباءٌ إذا يأبى وأليَن  شِيمَةً             وأنومُ عن جارٍ إذا اللّيلُ أظلما

سيرة ابن هشام

- لإبداء رأيك حول الخاطرة في موقع الصحيفة

© 2014 TABAH WEBSITE. All rights reserved - Designed by netaq e-solutions