للأعلى
30-مايو-2013

سورية المذبوحة

سوريا هى قلب الشام النابض، والشام أرض دعا لها النبى، صلى الله عليه وآله وسلم، بالبركة، وذكر أن عمود الكتاب فيها، وهى مطمح الناظرين من الشرق والغرب منذ القدم؛ ففيها ملتقى الحضارات وتنوع الأفكار، وهى أرض الأنبياء، عليهم السلام، ومثوى الصحابة الكرام.

وقد عانت ظلم الاحتلال، وهبّ علماؤها ومن حولهم صفوة قياداتها من مختلف الأعراق والملل والطوائف لمقاومته، فلما شعر بضرورة الرحيل خلّف فيها ألغام الفتنة الطائفية إلى أن تولى زمامها قيادات تنتمى إلى أقلية، لتعانى البلاد بمختلف طوائفها عقوداً من الظلم والاضطهاد للإنسان أياً ما كان عرقه أو ملته أو طائفته، بما فى ذلك أبناء الطائفة التى تنتمى إليها تلك القيادات ممن لم ينصهروا فى بوتقة هذا النظام.

وعندما هبّت رياح ما سُمِّى «الربيع العربى» صدّق أهل الشام مَن كانوا يشجعونهم على الثورة بأن الأمر يسير على النحو الذى جرى فى تونس ومصر، وكأن البلاد على حدٍّ سواء وأمّلوا، أن يتنفسوا الصعداء من ظلم النظام الذى يحكمهم، فخرجوا متظاهرين مُسالمين يحدوهم الأمل، فاصطدموا بواقعين مريرين:

الأول: أن النظام الحاكم ليس لديه مانع من أن يبطش بكل من يقف فى وجهه بأبشع أنواع البطش دون مراعاة للقيم الإنسانية أو الضوابط الأخلاقية، مستنداً فى ذلك إلى ما يملك من أدوات إقليمية يستمد العون من بعضها ويهدد دول الجوار ببعضها الآخر.

الثانى: أن من كانوا يشجّعونهم على الخروج وقفوا موقف المتفرج من كل الدمار الذى أصابهم، فلحق بالإنسان قبل العمران، ولا يزال مستمراً، وغاية ما قدموه لهم هو بعض المال، ومعسكرات الإيواء، وكثير من الخطب الرنانة والشعارات الطنانة، ومئات من البرامج الإعلامية، مع العجز التام أمام واقع تجاذب القوى العالمية وصراعها على مواقع التأثير فى المنطقة.

وما إن اضطر أهل الشام إلى حمل السلاح للدفاع عن أنفسهم وأعراضهم المنتهَكة حتى فُتحت الأبواب أمام فوضى الجماعات التكفيرية المتطرفة لتعمل على تحويل سوريا إلى أرض الميعاد التى يطمحون إلى تأسيس الإمارة الإسلامية فى ربوعها بعد فشلهم فى العراق، مع أمل إحياء وجودهم فى العراق عبر التركيز على البُعد الطائفى الذى يغذيه ظلم النظام الحاكم فى العراق.

وتشكّلت هيئات للمعارضة السورية تجوب العالم بحثاً عن دعم حقيقى لمظلمة الشعب مع شدة اختلاف توجهات أفرادها واستعصاء تباين أفكارهم ومآربهم على الانصهار أو حتى الانسجام فى بوتقة واحدة تعمل لمصلحة الوطن بالرغم من تشكيلهم لائتلاف يجمعهم جمعاً صورياً لا يوقف تنازع التوجُّهات على دِفّة قيادته.

وتشكل ما سُمِّى «الجيش الحر» فى صورة كتائب مختلفة انضم إليها الكثير من الضباط الأحرار الرافضين لمسايرة النظام فى القتل والجريمة ومن المخلصين المكلومين الذين شاهدوا فظاعة البطش على أيدى أمن النظام وزبانيته، وقد سئموا استمرار الظلم والقهر اللذين وُلد الكثير منهم ونشأ وهو لا يعرف غيرهما فى بلادهم، وهؤلاء من صفوة شباب سوريا الذين يبذلون التضحيات الحقيقية، يحدوهم الرجاء الصادق فى التغيير إلى الأفضل، واتسعت دائرة الملتحقين بالقتال من كل حدب وصوب، وتشكلت جبهات متعددة ضمّت التكفيرى والمجرم وتاجر المخدرات، وهذا بالطبع أفرز واقعاً مستعصياً على التناغم والتنسيق والضبط بين المقاتلين.

وبينما ترددت الدول والتنظيمات التى أعلنت دعمها وتأييدها لثورة السوريين بين التسليح وعدمه، وبين تحديد حجمه ونوعه، والجهة التى تتسلّمه، وتذرّعت بالخوف من وقوعه فى أيدى المتطرفين، كانت الدول والتنظيمات المؤيدة للنظام الحاكم جادّة وسخيّة فى دعمه بالثقل السياسى فى المحافل الدولية وبالمال والعتاد، بل بالمقاتلين على الأرض.

ودقّت طبول الطائفية المقيتة لترتفع أصوات التطرف البغيض فى كل طرف، بعد أن أمعن النظام منذ البداية فى ترسيخ البعد الطائفى، لا سيما سعيه إلى تعبئة الأقليات على الأكثرية، خاصة الأقلية التى ينتمى إليها.. فبرز فى المشهد طرفان: طرف دخل فيه من تسمّوا «المجاهدين» الذين نشأت حركتهم وترعرعت فى أفغانستان ضد الاتحاد السوفيتى السابق بدعم سخى من الولايات المتحدة وحلفائها فى المنطقة.

وقد رفع أولئك شعار الانتصار للصحابة من الشيعة الذين يعتبرونهم كفاراً وأعداءً للإسلام وروّجوا لمفهوم أنهم أشد خطراً على المسلمين من اليهود، ما أعطاهم المبرر لجعل قتالهم مقدماً على قتال الكيان الصهيونى نفسه، بل وصل بهم الأمر إلى الاحتفاء بالعدوان الصهيونى المتكرر على سوريا بذريعة أن الصهاينة يهاجمون من هم أسوأ منهم!

وطرف آخر يضمّ مَن خاضوا حرباً ضد الكيان الصهيونى بدعم متنوع من روسيا وحلفائها فى المنطقة، باعتبار أنّ ذلك الكيان يمثل مرتكز الوجود الأمريكى فى المنطقة، وانضمت الصين إلى روسيا فى هذه الجبهة كى لا تتكرر الخسارة التى تكبّدتها فى ليبيا.

وقد رفع هذا الطرف شعار الانتصار لآل البيت من السنّة الذين يعتبرونهم الأعداء النواصب أحفاد يزيد بن معاوية لتبرير القتل والذبح، دفاعاً عن مقامات آل البيت وانتصاراً على القوى العميلة الصهيوأمريكية التى تدعم الطرف الأول بزعمهم، ما يبرر لهم التحالف مع روسيا وغض الطرف عن معاداتها المسلمين فى أفغانستان والشيشان والبوسنة والهرسك وكوسوفا!

وبدأت ثقافة التحريض التى تستدعى التاريخ والجغرافيا والنصوص وصيحات الثأر، بل لقد أخرجت آل البيت والصحابة من قبورهم لتقسمهم إلى فريقين كل منهما مع طرف، وكأن الحرب الدائرة هى معركة بين الصحابة وآل البيت فى حرب تأكل الأخضر واليابس وقودها جيل ذهب ضحية للتجهيل بفقه دينه ودنياه!

كل هذا وأهل سوريا وحدهم مَن يدفعون أغلى الأثمان، فتحولت بلادهم العظيمة إلى أطلال مدمَّرة، وتفرّق أهلها بين قتيل وجريح ومعتقَل ومشرَّد، وشاهدنا هذا الشعب المضياف كريم النفس، الذى فتح أبناؤه بالأمس قلوبهم قبل بيوتهم للنازحين واللاجئين من العراق ولبنان دون تمييز طائفى أو عرقى، وقد تحولوا إلى لاجئين فى مخيمات لا تمنع برداً ولا حراً، أو مشردين فى مختلف البلاد تعاملهم الدول بريبة وتوجّس، خشية تعرضها لخطر اندساس عملاء النظام بينهم، وأصبح من كانوا يشجعونهم بالأمس على الثورة يروّجون للزواج من بناتهم بدعوى مساعدة الإخوة النازحين! وكأن هذه المساعدة لا يمكن أن تكون بتزويج الفتيات السوريات بالسوريين، أو لا تكون بتوفير الأعمال الكريمة لهم، وهم الشعب العامل المكافح.

وآه من مرارة هذا الواقع، فقد زرت سوريا مراراً وعرفت أهلها كِراماً أعزة، يأكلون من عمل أيديهم مُجدّين فى صناعتهم وزراعتهم إلى حدّ الاكتفاء الذاتى من القمح، مع تحمُّلهم لمشقّة الواقع الداخلى الصعب والحصار الخارجى المرهق، يعطف غنيُّهم على فقيرهم ويصون كرامته، حتى إن بعض مؤسساتهم الخيرية أقامت سوقاً للفقراء والأيتام تدخل إليها الأم مع أيتامها ببطاقة ذكية تأخذ بها ما يكفيها وتخرج وكأنها كانت تتسوق، حفاظاً على كرامتها وكرامة أبنائها.

وعرفتُهم أيضاً مرحبين بمن يفد عليهم من كل حدب وصوب دون تعالٍ أو تفرقة عنصرية، فهم الذين آووا الأمير عبدالقادر الجزائرى وجنوده حتى استوطنوا البلاد وأصبحت لهم ذرية تنتمى إليها، وهم الذين لم يجدوا غضاضة فى أن يتولى رئاسة أول حكومة لهم بعد الاستقلال رجل من أصل مغربى لما علموا من حسن تربيته على يد والده الإمام بدر الدين الحسنى، وهم الذين لم يترددوا فى انضمام بلادهم إلى مصر تحت مظلة الوحدة العربية.

وأما بعض مشايخ سوريا ودعاتها الذين كانوا منفيين فى الخارج بسبب صراعهم القديم مع النظام فقد وجدوا فى هذا الواقع فرصة للثأر من النظام الذى بطش بهم بالأمس، وأملاً فى صلاح الأوضاع فى الغد، فتزعّموا الموقف منذ بدايته بتأييد من الدول التى تقف فى المعسكر المضاد، وتشجيع من الجماعات «الإسلامية» التى تتفق مع منطلقاتهم، حتى سمعنا مِن بعضهم مَن يقول: لو أن ثلث الشعب استُشهد فى سبيل تحرير البلاد فلا مانع لدينا! وانتهى الحال بالبعض الآخر إلى استجداء الولايات المتحدة باسم الله أن تقف مع الثوّار، بعد أن كان يفتى بحرمة الاستعانة بها لتحرير الكويت بعد احتلالها من قبَل «صدّام»!

بينما وقف علماء سوريا الذين فى الداخل منذ بداية الأحداث موقفاً مُتزناً مسئولاً دعوا فيه طرفى النزاع (النظام والثوار) إلى التهدئة وبذلوا النصح الصادق لرئيس النظام الحاكم بأن يتدارك الوضع بإصلاحات حقيقية وواجهوه بشجاعة صادقة وطالبوه بكف أيدى زبانيته عن الشعب، كما حذّروا الشباب من عواقب هذا الانطلاق لما يعلمونه من قسوة النظام وصعوبة الواقع المحيط بسوريا.. فلم يتفاعل النظام مع دعوتهم تفاعلاً جاداً، بل استخفّ بنصيحتهم منذ بداية الأمر، ولم يُنصت إليهم الشباب الذى سئم الواقع المرير والبطش المتزايد، لا سيما أن أبواق التحريض من الخارج تعِدُهم وتُمنّيهم بالمستقبل المشرق الذى يحلمون به.

فلمّا تطورت الأحداث وارتُكبت المجازر فتحولت الأمور إلى المواجهة الدموية الفظيعة انقسم علماء الداخل إلى ثلاثة مسالك حاملين مع اختلافهم إرادة الخير فى مقاصدهم وفى صدق اجتهاداتهم.

الفريق الأول أوصله اجتهاده إلى مغادرة البلاد وإعلان تأييد الشباب الثائر لما رآه من اشتداد وطأة الظلم وفظاعة البطش والعدوان، وهم الآن متنقلون بين العواصم يعيشون القلق على بلادهم وهم يرون تخاذل من كان يعد بالعون، وتنازع بعض الدول والتنظيمات والتوجهات على احتواء مستقبل بلادهم، أو استغلال قضيتهم، مع بذل هؤلاء العلماء جهوداً عظيمة فى خدمة النازحين معنوياً ومادياً عبر مؤسساتهم الخيرية وثقة الناس بهم، فعملوا على تشييد المدارس وتأسيس المستوصفات الطبية وجمع المعونات الغذائية لإغاثة النازحين، وبذلوا الوسع فى توعية من يستجيب لهم من المقاتلين وإرشادهم.

الفريق الثانى أوصله اجتهاده إلى ترجيح كفّة رفض ما اعتبروه مؤامرة غربية ترفض وجود دولة لا تنضم للنظام العالمى الجديد، ورأوا أن الصبر على ظلم نظام واحد خير من تحول البلاد إلى شتات منقسم، فبقوا فى البلاد يحاولون نفع الناس بما يستطيعونه من شفاعات للإفراج عن المعتقلين ومساعدة المعوزين، متحمّلين فى سبيل ذلك كل مظاهر الاغتيال المعنوى الذى مارسته ضدهم الميكنة الضخمة للإعلام المضاد، والجماعات المتحمسة منذ بداية الأحداث.

والقاسم المشترك بين الفريقين أن كلاًّ منهما يعتبر الآخر مُخطئاً فى اجتهاده مع التعفف عن الطعن فى أمانته وصدقه، بخلاف حال مشايخ المنفى والجماعات المنسجمة مع توجهاتهم؛ حيث سارعوا منذ البداية إلى الطعن فى صدق الفريق الثانى واتهامهم فى دينهم وتحريف خطاباتهم بل إهدار دمائهم.

الفريق الثالث اعتبر ما يجرى فتنة عظيمة تقتضى البقاء فى البلاد مع اعتزال الفريقين والاكتفاء بالعمل الخيرى مع لزوم المساجد والبيوت والدعاء إلى أن يقضى الله أمراً كان مفعولاً، مستشهدين بأحاديث وروايات فتن آخر الزمان، كقوله صلى الله عليه وآله وسلم فى وصف إحدى هذه الفتن: «تطيف بالشام، وتغشى بالعراق، وتخبط بالجزيرة بيدها ورجلها، تعرك الأمة فيها عرك الأديم». وقول سيدنا على بن أبى طالب، رضى الله عنه: «إذا اختلف الرمحان بالشام لم تنجلِ إلا عن آية من آيات الله. قيل: وما هى يا أمير المؤمنين؟ قال: رجفة تكون بالشام، يهلك فيها أكثر من مائة ألف.. فإذا كان ذلك فانظروا إلى أصحاب البراذين الشهب المحذوفة، والرايات الصفر، تُقبل من المغرب حتى تحل بالشام، وذلك عند الجزع الأكبر والموت الأحمر. فإذا كان ذلك فانظروا خسف قرية من دمشق يقال لها حرستا». وما رواه نعيم بن حماد فى كتاب الفتن: «عن أرطأة قال: إذا اصطكت الرايات الصفر والسود فى سُرّة الشام فالويل لساكنها من الجيش المهزوم، ثم الويل لها من الجيش الهازم». وما رواه ابن المسيّب: «تكون فتنة بالشام، كان أولها لعب الصبيان، تطفو من جانب، وتسكن من جانب، ثم لا يستقيم أمر الناس على شىء، ولا تكون لهم جماعة..»، وربطوا هذه الرواية الأخيرة بما كان من بداية الأحداث ما كتبه بعض الصبية على الجدران فى درعا.

ولا تزال رحى الأزمة تطحن البلاد والعباد، ولا تزال مفاوضات الدول الكبرى حول مستقبل سوريا تشهد مباراة المغالبة وصفقات التراضى، التى لا يدفع ثمنها سوى الإنسان السورى وحده من دمه ومستقبل بلاده.

وليس فى هذا القتال ما يطمئن القلب إلى صحته سوى قتال من قاتل المعتدى الصائل دفاعاً عن نفسه وعرضه وماله.

وأخيراً..

لست سياسياً ولا أحب السياسة، لكن الذى دفع إلى كتابة هذه الخاطرة نفثة مصدور مشفق على مستقبل الأمة، قلق من استمرار تقديم القرابين على مذبح السياسة باسم الله، تعالى شأنه عما يقولون ويفعلون علواً كبيراً.

وأعلم أن هذه الخاطرة لن تُرضى غلاة الطرفين المتنازعين، ولا من يطمحون إلى غنائم المعركة.

وربما يُساء فهمها من قبَل كثير من الأحبّة الذين لم تعد عقولهم تستوعب سوى تصنيف واحد (معنا أو ضدنا) لكثرة معاناة نفوسهم من توالى مشاهد الإجرام والبطش واحتراق قلوبهم على من فقدوا من الأهل والأحبة.

غير أن التحدى الذى أمامنا يتطلب صراحةً يعقبها عمل كبير وطويل وشاق من النظرة المتبصرة إلى أزماتنا، ابتداء بجذورها العقدية والثقافية، ومروراً بجذوعها الاقتصادية وأوراقها السياسية، ووصولاً إلى ثمارها المرجوّة فى الدنيا والآخرة.

ومع هذا وذاك، فالثقة بالله كبيرة، واليقين راسخ فى القلب بأن المستقبل سيكون مشرقاً إذا فقهنا الدرس المؤلم وعدنا إلى التبصر وصدقنا الله فى غيرتنا على ديننا من أن يوظفه أصحاب المنافع الضيّقة فى المعترك القذر للسياسة.

«مِنْ أَجْلِ ذَٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا».

اللهم فرجك القريب لعبادك فى الشام فقد اشتدّ عليهم البلاء وامتدّ يا لطيفاً بالعباد.

- لإبداء رأيك حول الخاطرة في موقع الصحيفة

© 2014 TABAH WEBSITE. All rights reserved - Designed by netaq e-solutions