للأعلى
08-نوفمبر-2012

خمر ولذة.. ونفس الداعية

 

الحمد لله

قرأ الإمام في صلاة المغرب من سورة الصف قوله تعالى: (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ، كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ )) ، فكان وقع الآيتين مزلزلاً للقلب.

فإذا كان هذا خطاب الله لعموم المؤمنين، فكيف الحال بنا معاشر المتصدرين لتبليغ الخطاب الإسلامي؟

أليس الأمر في حقنا أشد وآكد؟ ألسنا من يبلغ الناس أوامر الله ونواهيه؟ ألسنا نحن من أوجب الله على المسلمين الإنصات إلى خُطبنا وندبهم إلى الاستماع لمواعظنا؟ ونحن نقول لهم قال الله.. وقال رسول الله..

فكم قلنا ما لا نفعل.. وكم قلنا ولم نفعل..

انصرفت من الصلاة مشغول البال بهذا المعنى، ثم تنبهت إلى معنى أدقّ، يلوح بين ثنايا الآية الكريمة..

وهو أنّ هذا السلوك استوجب مقت الله تعالى، والمقت هو البغض الشديد لتعاطي القبيح.

وهذا المقت من الله إنّما هو للفعل وليس للفاعل، والفعل المشار إليه في الآية هو ’القول بلا فعل‘، فقد ربط الله المقت بالقول ولم يقطع بإنزاله على القائل، إذ لا تزال الفرصة أمامه لتدارك أمره بتصويب سلوكه بأن يقول ما يفعل، ما دام على قيد الحياة ..

ومع أنّ مقته سبحانه وتعالى، أعاذنا الله منه، يتوجّه إلى ما قبح من أفعال العباد وليس إلى ذواتهم، إلا أن محبّته جلّ جلاله، رزقنا الله إياها، تتوجّه إلى ذوات المحسنين من عباده، كقوله تعالى: (( إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ )).

وفي مناسبة أخرى ذكر الله سبحانه كرهه لفعلٍ أن يصدر من المنافقين في قوله: (( وَلَكِن كَرِهَ اللَّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ ))، وهو الانبعاث، ولم يوقعه على الذوات.

ومن التربية القرآنية العجيبة أن الله حين يذكر نفي محبته عن المتلبّسين بصفات قبيحة وأوصاف سيئة، كقوله:  (( إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ )) كأنّه يدعو المعتدي إلى الدخول في أهل محبته بترك الاعتداء.. وهكذا بخصوص سائر الأوصاف المذمومة.

أما توجّه المقت والكره إلى الأفعال لا إلى الذوات، ففيه تنبيه لنا بأن نحترم الذوات ونتورّع عن الحُكم عليها؛ إذ الحكم على الذوات يتطلب أن تتوفر لدى من يحكم عليها معرفة قطعية بدواخل النفوس وخفايا النيات ومصير المآلات، وهذا في الأصل إنّما لله وحده. فإذا كان من يملك الحق والقدرة على ذلك لم يصرح به في هذا المقام، فكيف يكون لنا نحن أن نحكم على ذوات خلقه؟

وكأننا اطّلعنا على دواخل نفوسهم وخواتيم أعمالهم!

فترى من يرمي شخص بلا بيّنة بأنّه كافر أو منافق أو أنّه عدو لله أو من حطب جهنم، وهذا يريد وذاك يقصد وآخر يُخفي في نفسه، وغير ذلك.. دون أن نتنبه إلى أن هذه شؤون خفية دفينة في طيات القلوب، وهي غيب لا يطّلع عليه إلا الله.

وأخشى أن يدخل من يقتحم هذا الأمر في منازعة مقام الربوبية دون أن يدري.

يا الله..

كيف سهل على البعض التجرؤ على تجاوز حدوده البشرية إلى هذا المدى؟ وكيف سمحنا لأنفسنا بالتألّي على الله؟

وهذا يذكّر بقصة عابد بني إسرائيل مع فاسق بني إسرائيل، وكيف أن الله أحبط حسنات العابد وغفر سيئات الفاسق، لاستكبار العابد بعبادته على الفاسق وحكمه عليه بأن الله لن يغفر له!

فوقع في ذنب هو أكبر من شرب الخمر وارتكاب الفواحش – مع كونها من الكبائر – ألا وهو ذنب منازعة الله في خصائص الربوبية بالحكم على بواطن الخلق ومصير مآلاتهم ..

وهذا الذنب من باطن الإثم وهو كذلك مؤشر على وجود الكِبر في نفس العابد ..

فالعابد تكبَّر على الفاسق واحتقره بسبب ما عُرف عنه من المجون، والفاسق خجل من مقابلة العابد إجلالاً لما عُرف عنه من العبادة والنسك.

وهذا التصرف من الفاسق كان مؤشراً يدلّ على أن ذنوبه ومعاصيه قد أورثت في قلبه انكساراً وفي نفسه تواضعاً. ورحم الله ابن عطاء السكندري حيث قال: رُبّ معصية أورثت ذُلاً وانكساراً خير من طاعة أورثت عزاً واستكباراً.

وليس هذا المعنى ببعيد عن نسيان سيدنا آدم لوصية ربه.. فانكسر بين يديه واعترف وتاب وأناب.. فتاب الله عليه.

وعبادة إبليس الطويلة التي أورثت في نفسه العجب والكبر، فحسد آدم وامتنع عن السجود له امتثالاً لأمر الله، ثم استكبر عن الرجوع لربه تائباً معتذراً فأبعده الله، وطرده من رحمته.

فسبحان الله الذي جعل بداية استخلافه إيانا في الأرض مرتبطة بهذا الدرس ومع ذلك قليل من يفقه أهميته!

فكم مرة نظرتُ فيها إلى من اختلفت معه بعينٍ متعالية لحظة ظهور قوة الحُجّة التي سُقتها بين يديه وهي تدحض طرحه المخالف.

وكم مرة عاقرَت نفسي (خمرة) الفرح بالانتصار عليه والتشفّي بهزيمته إلى حد (الثمالة).

ثم خيَّلتْ لي الأمّارة بالسوء بأن هذا من الفرحِ بإظهار الحق وانتصار الدين فانطلت علي حيلتها وصدقتها وهي كذوبة.

وكم مرة تلذّذَتْ هذه النفس (بمتعة) النظر إلى إعجاب الناس وتعابير انبهارهم إلى حدٍ بلغت فيه (ذروة النشوة) من عذوبة ثنائهم على الأسلوب الحكيم المهذب، الذي تمكّنت به من استدراج محاورها إلى الاعتراف بأنه مُخطئ، وأنه لم يكن مُحقاً فيما ذهب إليه، وجهلت حينها أنه كان أرقى مسلكاً، وأصدق حالاً، بل وأعظم شجاعة منّها، لحظة اعترافه تلك. بل قد كان هو التقي، وكانت هي الآثمة.

وكم (كفرت) بنعمة الستر عليها عندما قابلت ثناء الناس (متبجِّحة) بادعاء التواضع والأدب، متفننة في نحت عبارات الاستغفار (الذي يحتاج إلى استغفار)، متسترة بأدب الاعتراف (الكاذب) بالتقصير، والتي سُرعان ما ينكشف زيفها إذا هبّت عليها ريح الاختبار ..

فعند أول هجوم يتوجه إليها بتهمة الكذب والنفاق تثور غاضبة (لا لله) ولكن لعظمتها الموهومة وتبحث في قاموس الاحتيال عن أي مبرر لمهاجمة من اتّهمها، مترقبة إلى حين أن يصدر عنه خطأ ديني، أو سوء تصرف اجتماعي، لتنقضَّ عليه انقضاض النسر على الفريسة إذا لمح منها لحظة ضعف.

ما أبعد هذه الحال عن حال مالك ابن دينار عندما ناداه أحدهم: يا مرائي، فالتفت إليه وأجابه بتلقائية صادقة: من الذي دلّك على اسمي الذي أخطأه أهل البصرة؟

أواه منك يا نفس وآه..

أهذا ما لبستِ ثوب الدين من أجله؟

أهذا ما أمضيتِ العمر بدعوى الدعوة إليه؟

أيطيب لكِ السُّكرُ بخمر الهوى؟ ولذة المتعة؟ وغيبوبة الجحود؟

إنها أوهام تتلاشى ساعة الإفاقة، ويا لَخوفي من أن تكون الإفاقة متأخرة،  فلا تنتبهين إلا وقد نُصب الميزان الدقيق الذرّي المعيار !

والمُحاسِب هو الناقد البصير، عالم السر وأخفى!

((  أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ))

(( غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ))

© 2014 TABAH WEBSITE. All rights reserved - Designed by netaq e-solutions