للأعلى
27-مايو-2013

أهوَ إلحادٌ أم أنه البحث عن الحقيقة؟

خاطرة الإثنين، رؤية مختلفة لما سُمي بظاهرة الإلحاد

الحمد لله

كثُر الحديث هذه الأيام عن ما يُسمّى بظاهرة الإلحاد، وكثر الجدل حولها من نواحي عديدة، فتارة تُطرح من باب الدعوة إليه أو التحذير منه وتارة من باب الثقة بأنه القادم المحتوم أو القلق من كونه الإشكال الخطير وتارة من باب السرور بأنه الـمُخلّص أو الغضب من كونه الكفر الوقح.

لكن الخاطرة اليوم حول ملمح مختلف بعض الشيء، ألا وهو أن الضجيج القائم حول هذه الظاهرة ومختلف التفاعلات معها قد غيَّب عن الأذهان جانباً مشرقاً فيها.. نعم جانب مشرق فلا تتعجل أخي القارئ المتدين.

والجانب المشرق هنا هو ضخ دماء جديدة للبحث عن الحقيقة في مجتمعنا الذي جَمُدت الدماء في عروقه، وأصبح مرتبكاً أمام فوضى التنازع على الرغبات، والركون غير المتبصر إلى الموروث، والملل القاتل من المعتاد، واللامبالاة المقلقة تجاه كل ما هو مهم، والتخبط في ترتيب الأولويات، والتهافت البغيض على التسلُّط بأنواعه (الديني والسياسي والاقتصادي والاجتماعي)، والغضب المتفجر من الواقع.

وأمّة تتجمد دماء البحث عن الحقيقة في عروقها لا يمكن أن تنهض وإن أحرزت صوراً من التقدم المادي أو مظاهر من الحريات الفردية أو الاجتماعية أو السياسية، فضلاً عن أمة ترزح تحت وطأة التخلّف في مختلف هذه النواحي.

لهذا فنحن بحاجة إلى التريُّث في ردة الفعل تجاه هذه الظاهرة، وينبغي لنا أن لا نقع في فخ الانفعال التلقائي الغاضب، أو الهجوم المتحامل على الشباب، أو التلويح الأحمق بالعقوبات، أو الدعوة الهمجيّة إلى البطش، فكل هذا يوصل رسائل خاطئة مفادها عدم الثقة بقدرة الإسلام على البيان بالحُجّة والبرهان، كما أنه يؤدي إلى نتيجة واحدة؛ وهي زيادة التشويش على أذهان الشباب ومن ثمّ مزيد من الانتشار لهذه الظاهرة.

ولدينا جانبان أساسيان في تناول هذه الظاهرة:

الأول: هو الجزء المتعلق بمسؤوليتنا تجاه انتشارها وهي تتلخص في تخلف بيت الخطاب الإسلامي عن فريضة التجديد، وتقصيرنا في بناء قواعد البحث المعرفي لشبابنا، وعجزنا عن تقديم النموذج العملي للحضارة المبنيّة على الإيمان مع الاكتفاء باجترار الماضي المشرق للحضارة التي شيدها الأسلاف.

الثاني: هو الجزء المتعلق بفهم معاناة شبابنا من واقعهم المرير وتفهّم آمالهم وآلامهم، واحترام عقولهم ومشاعرهم، وإعطائهم حقوقهم التي جعلها الله لهم في أن يخوضوا تجربة البحث الجادّ عن الحقيقة بما في هذه التجربة من نجاح وإخفاق وصواب وخطأ.

وحق الإنسان في أن يُخطئ هو حق أصيل في الشريعة؛ سواء كان هذا الخطأ نتاجاً لتجربة البحث الجاد، أم كان صادراً عن طبيعة الضعف البشري.

فصاحب الخطأ الناتج عن البحث الجاد عن الحقيقة له أجر كما أخبر المعصوم صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: (إذا حكم الحاكم فاجتهد ثمّ أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثمّ أخطأ فله أجر). رواه البخاري.

وفهِمَ [علماء] من هذا الحديث أن الجادّ في محاولته للوصول إلى الصواب، الآخذ بأدوات الاجتهاد، الصادق في طلب الوصول إلى الحق، له أجر وإن لم يصل إليه ولهذا قالوا: “كل مجتهدٍ مُصيب”، وقالوا: “الحق واحد لكن الصواب متعدد” .

كما أن الخطأ الناتج عن الضعف البشري أيضاً طريق للوصول إلى الحقيقة في حالة الاعتراف به والسعي نحو تصحيحه، ولهذا شرع الله لنا التوبة، بل جعل تكررها الناتج عن تكرر الخطأ طريقاً إلى نيل محبة الله، قال تعالى: {إنَّ اللهَ يُحبُّ التوّابين ويُحبُّ المُتطهِّرين}، وقال تعالى: {قُلْ يَا عِباديَ الَّذينَ أَسرَفُوا على أَنفُسِهِمْ لَا تَقنَطُوا مِن رحمةِ اللهِ إنَّ اللهَ يَغفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إنّهُ هُوَ الغفورُ الرحيم}.

بل إنّ الخطأ الناتج عن الضعف البشري مظهرٌ من مظاهر حكمة الله في خلقه ورحمته بهم، قال الرحمة المُهداة صلى الله عليه وآله وسلم: (لو أنكم لم تكن لكم ذنوب يغفرها اللهُ لكم لجاء اللهُ بقوم لهم ذنوب يغفرها لهم). رواه مسلم.

لهذا فنحن بحاجة إلى الكفِّ عن لغة التعنيف والتهجّم والتهديد التي لا تُجدي نفعاً لننتقل إلى مرحلة تحمّل المسؤولية والاعتراف بالخطأ والعمل الجادّ على الإجابة عن أسئلة الشباب.

وأهمس هنا في أذن الشباب بأن يكونوا جادّين في طلب الحقيقة أو الصواب، آخذين بأدوات البحث العلمي، صادقين في التفرقة بين البحث الجادّ والاستسلام للسُخط على الواقع، وأن يعملوا بهمّة على التحرر من عبودية الرغبات والشهوات ومزاجيّة الأهواء، كي لا تُشوّش على موضوعية عقولهم الباحثة.

وأن لا يعتدوا على شرف قيمة حرية البحث وحرية التعبير وأخلاقياته، وذلك بتعدّيهم على قيمة أخرى وهي احترام حق المتدين في أن لا تُنتهك معتقداته بالسب والتجريح والسخرية، فهناك فرق بين النقد والسباب.

وهذه الهمسة أبثّها أيضاً إلى من كان بحثهم عن صوابية وجود الحقيقة في معترك النسبية المطلقة وفلسفة الحداثة وما بعد الحداثة.

وأتذكّر هنا موقفاً احترمته لشاب اختار الإلحاد؛ حيث رفض العمل على دعوة من حوله إلى اختياره، لأنه يعتبر نفسه في مرحلة من مراحل التأكّد من صحة هذا الاختيار؛ وذلك بسعيه نحو الوصول إلى الانسجام العقلي والقلبي والنفسي مع اختياره، والتأكد من أنه قد تخلّص في اختياره من تأثير ردة الفعل تجاه الواقع الذي نعيشه، وذلك بسبب شعوره بالمسؤولية تجاه الآخرين، ورجوت أن يكون هذا حال كثير من المتدينين المعاصرين تجاه من يحيط بهم.

وأخيراً..

إن ما توصلتُ إليه بعد بحث ودراسة، لا تزال مستمرة عبر الاستبانة والاستقراء والحوار مع شرائح متنوعة من الشباب، هو أنَّ كثيراً ممن يعتبرون أنفسهم ملحدين أو لا دينيين أو حتى متشككين ومستشكلين هم في الحقيقة باحثون عن أجوبة لأسئلة تجيش بها صدورهم ومن حقهم أن يأخذوا الفرصة والوقت الكافيين في البحث الجادّ عنها.

{أوْ كالَّذي مرَّ على قريةٍ وهي خاوِيةٌ على عُروشِها قالَ أنَّى يُحيِي هذهِ اللهُ بعدَ مَوتِها}؟

اللهم يا مَن احتجبَ بنور ظهوره عن خلقه، وأشهدهم حقيقة وجوده بتجلي أفعاله، وأودع في مكنون قلوبهم بصيرة خرق حجاب نفوسهم،  دُلّنا بك عليك، وأوصلنا بفضلك إليك، وانقلنا من حيرة الوهم إلى حيرة الفهم يا قُدّوس يا سلام.

- لإبداء رأيك حول الخاطرة في موقع الصحيفة

© 2014 TABAH WEBSITE. All rights reserved - Designed by netaq e-solutions