للأعلى
21-مايو-2012

القدس في الحضارة الإٍسلامية (4) مرحلة صدر الإسلام للإمام العلامة مفتي الديار المصرية

تجلت أهمية بيت المقدس في الإسلام عندما أسري بالرسول صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى‏,‏ فكان ذلك إيذاناً بانتقال الأرض المقدسة والمسجد الأقصى إلى ظل الدين الخاتم والرسالة الأخيرة‏,‏ وظهر اهتمامه بها مع أولى مراحل الدعوة

تجلت أهمية بيت المقدس في الإسلام عندما أسري بالرسول صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى‏,‏ فكان ذلك إيذاناً بانتقال الأرض المقدسة والمسجد الأقصى إلى ظل الدين الخاتم والرسالة الأخيرة‏,‏ وظهر اهتمامه بها مع أولى مراحل الدعوة; يوم أن كان المسلمون قلة قليلة مستضعفة في مكة, لترسخ مكانتها في القلوب رسوخ عقيدة التوحيد, ولتؤكد مكانة القدس في الإسلام كواحد من أهم المعالم الإسلامية.

  ففي هذه الرحلة المباركة تجلت وحدة الرسالات السماوية وأصل التوحيد, فكل الرسل جاءوا بدعوة الإسلام, قال تعالى: “قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ”( البقرة:136), وقد التقى رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم في هذه الرحلة بإخوانه من الأنبياء, وصلوا صلاة واحدة يؤمهم فيها صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين, للدلالة على أن آخر الرسل موصول بأولهم.

  ومما عزز مكانة القدس في الإسلام أن الصلاة التي هي عماد الدين فرضت خلال رحلة المعراج منها إلى السماء وكانت القدس هي القبلة الأولى حتى جاء الأمر بتحويلها إلى البيت الحرام بعد ذلك. لقد أصبحت هذه الرحلة رمزاً أبعد وأوسع من حدود الزمان والمكان لتأكيد أن الإسلام هو دين الله الخاتم وهو الدين الذي أرسل بأصله الأنبياء والمرسلون لهداية العالمين. فكما أرسل الله سبحانه الرسل بالعهد القديم والعهد الجديد, قد ختمهم برسول الله محمد صلى الله عليه وسلم الذي أنزل معه الرسالة الخاتمة: “وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ “( آل عمران:81), وفي الحديث أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: “مَثَلِي وَمَثَلَ الأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِي، كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى بَيْتًا فَأَحْسَنَهُ وَأَجْمَلَهُ، إِلَّا مَوْضِعَ لَبِنَةٍ مِنْ زَاوِيَةٍ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَطُوفُونَ بِهِ، وَيَعْجَبُونَ لَهُ، وَيَقُولُونَ هَلَّا وُضِعَتْ هَذِهِ اللَّبِنَةُ؟ قَالَ: فَأَنَا اللَّبِنَةُ وَأَنَا خَاتِمُ النَّبِيِّينَ ” (صحيح البخاري3/1300).

  وقد كانت عودة المسلمين للقدس في عهد عمر بن الخطاب مثالاً لعظمة هذا الدين الخاتم; فبعد أن فرغ أبو عبيدة بن الجراح من دمشق توجه إلى القدس, حيث طلب أهلها الأمان والصلح, على أن يكون الخليفة عمر هو الذي يتولى بنفسه تسلم بيت المقدس وعقد الصلح, فكتب أبو عبيدة إلى عمر بذلك فقدم عمر فنزل الجابية من دمشق ثم سار إلى القدس, فأنفذ صلح أهلها, وتسلم بيت المقدس بنفسه من صفرونيوس بطريرك القدس عام15 هـ. وصدرت العهدة العمرية ونص فيها علي ألا يسكن إيلياء أحد من اليهود, ودخل سيدنا عمر رضي الله عنه القدس عن طريق جبل المكبر ثم أتى موضع المسجد الأقصى فصلى فيه تحية المسجد, ويروى أنه صلى في محراب داود, وصلى بالمسلمين فيه صلاة الغداة من الغد وجعل المسجد قبلي بيت المقدس.(البداية والنهاية7/55)

 وبعد أن وصل الخليفة عمر وخادمه إلى مشارف القدس علا التكبير والتهليل من المسلمين وصعد صفرونيوس وبطارقته إلى أسوار القدس ونظروا إلى الرجلين القادمين فأخبرهم المسلمون بأنهما ليسا سوى عمر وخادمه. فسألهم صفرونيوس أيهما عمر؟ فأخبره المسلمون أن عمر هو هذا الذي يمسك بزمام الناقة ويخوض في الماء والوحل, وخادمه هو الذي يركب الناقة, فذهل صفرونيوس والبطارقة, وهذا مذكور في كتبهم. ونصه: ابتهجي جداً يا ابنة صهيون اهتفي يا بنت أورشليم هو ذا ملكك يأتي إليك هو عادل ومنصور وديع وراكب على حمار وعلى جحش ابن أتان وأقطع المركبة من إفرايم والفرس من أورشليم وتقطع قوس الحرب ويتكلم بالسلام للأمم وسلطانه من البحر إلى البحر ومن النهر إلى أقاصي الأرض.(سفر زكريا, الإصحاح التاسع, رقم9-11)

  وخرجوا إلى عمر بن الخطاب يسألونه العهد والميثاق والذمة, فلما نظر إليهم عمر على تلك الحالة تواضع لله وخر ساجداً على قتب بعيره ثم نزل إليهم وقال: ارجعوا إلى بلادكم ولكم الذمة والعهد; فرجع القوم إلى بلدهم ولم يغلقوا الأبواب ورجع عمر إلى عسكره فبات فيه ليلة, فلما كان الغد قام فدخل إليها وكان دخوله يوم الاثنين وأقام بها إلى يوم الجمعة وخط بها محراباً من جهة الشرق وهو موضع مسجده فتقدم وصلي هو وأصحابه صلاة الجمعة. (فتوح الشام للواقدي1/242). وهكذا كانت القدس في صدر الإسلام تنعم وتستظل بوارف الحضارة الإسلامية.

© 2014 TABAH WEBSITE. All rights reserved - Designed by netaq e-solutions