للأعلى
10-أغسطس-2006

لقاء موقع الشورى نت

ما عرف عنه أنه متناقض.. لا يبدو كذلك في مدينة تريم. فالهدوء والتأني لدرجة الرتابة كما يخيل لمن يلحظها للوهلة الأولى أثمر ويثمر نتائج أعظم بكثير من تلك التي أثمرتها الأفعال الصاخبة في أماكن أخرى.ذلك الهدوء الواعي الذي هو بالتأكيد نقيض الكسل، زلزل الدنيا وأعاد رسم خارطة العالم، فمن هنا خرج الدعاة الذين يرجع إليهم الفضل بعد الله سبحانه وتعالى في إشراق نور الإسلام.وما يعنيه ذلك هو الامتداد الحضاري في قلوب ثلث العدد الحالي للمسلمين في العالم قاطبة، فيحتاج المهتم أو الباحث إلى جهد خاص حتى يستكشف ذلك الهدوء الصاخب.كنت أسأل نفسي وأنا ابن هذه المدينة: يا تُرى أما زالت مدينتي تؤدي ذلك الدور الكبير؟ وقد جاءتني الإجابة عند ما سنحت لي الفرصة أن اقترب من الحبيب علي الجفري. زرته لإجراء حديث صحفي معه، فوجدته منهمكاً في إلقاء محاضرة في معهد بدر التابع لدار المصطفى بتريم، ومعهد بدر هذا مخصص للمسلمين الذين لا يجيدون اللغة العربية وبالذات القادمين من الغرب: مثل أمريكا وبريطانيا والسويد وغيرها.وقد انتظم في الدورة الصيفية بالمعهد خمسة عشر شاباً وشابة من الدانمركيين، أتوا إلى هنا لمعرفة المزيد عن الإسلام، وذلك بعد حادثة إساءة الصحيفة الدنمركية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، ومن بين هؤلاء الشباب المذيعة الشابة في القناة الثانية من التلفزيون الدنمركي والذي كان قد أثار ظهورها على الشاشة وهي ترتدي الحجاب جدلاً هناك.كل شيء هنا يؤكد بأن هدوءنا الصاخب مازال يؤتي ثماره. اصطحبني الحبيب علي الجفري بسيارته بعد صلاة العشاء إلى بيته وكان لنا معه هذا اللقاء

“عندما تتحول الاختلافات المذهبية إلى صدام فهنا الإشكال، وإذا لم نتحد إلا على العدو فاتحادنا وهم”

عدم حضورك في وسائل الإعلام المحلية مقارنة بوسائل الإعلام الخارجية وتحديداً القنوات الفضائية هل سببه قصور وسائل الإعلام المحلية في التواصل معك؟ أم أنه عزوف من قبلك عنها نظراً لمحدودية انتشارها؟

الحمد لله وصلى الله وسلّم على سيدنا محمد وآله وصحبه، وبعد:
ما أُتيح للفقير إلى الله من فرصة انتشار في الوسائل العالمية لا شك أنه لن يكون حاجزاً بيني وبين أداء الدور الذي أعتبره واجباً تجاه بلدي من خلال وسائل الإعلام المحلية فيه. إلا أن إخواننا في وسائل الإعلام المحلية هنا انشغالهم كثير فيما يبدو في الفترة الماضية وما هم فيه من أوضاع وأولويات أقدرها واحترمها. وقد كانت هناك مشاركات لي في السنوات الماضية في رمضان عبر برنامج في التلفزيون اليمني (القناة الفضائية) وقد حصل في السنة الماضية أن سجلت عدد من الحلقات على أن تبث في وقت حي في رمضان، غير أنها بثت في وقت ميّت حوالي الساعة السابعة صباحاً، فاعتذرت بعد ذلك منهم عن الاستمرار في تسجيل حلقات أخرى لأن هذا الوقت الذي يُبذل في التسجيل سأُسأل عنه أمام الله تعالى. ولكن إخواننا في الفضائية اليمنية تواصلوا مع المكتب لتسجيل حلقات لرمضان هذا العام و وددت ذلك لولا أن الوقت قد تأخر هذه المرة وتم الالتزام مع قناة أخرى.

الداعية الديني – وأنت تحبذ أن تسمّي نفسك داعية لا عالماً – ورجل السياسة، برأيك فيمَ يلتقيان؟

في الإخلاص، عندما يخلص كل من الداعية الإسلامي والسياسي، فالإخلاص هو الذي سيجمع بينهما، لأن كلاً منهما يؤدي دوراً في خدمة الإسلام وبقدر ما يقوى الإخلاص في قلب كل منهما تظهر مساحات من الاشتراكات فيما بينهما وهذا لا يخص السياسي فقط، بل وكذلك الاقتصادي والاجتماعي والمؤرخ والمثقف . القواسم المشتركة بين البشر أرقاها وأصفاها الإخلاص.

كيف ترى الجمع بين المهمتين: الدعوة والسياسة في ذات الشخص؟

الاختيار الذي تربينا عليه على أيدي مشايخنا ووجدنا أثره واقعاً هو أن الداعية الإسلامي كلما ابتعد عن ممارسة العمل السياسي كمنافس للآخرين كان ذلك أنفع للبلد وللداعية والسياسيين أنفسهم. لأنه إذا دخل مجال المنافسة السياسية كداعية إسلامي وضع الإسلام عن مستواه العالي كسقف يلتجئ إليه الجميع إلى منافس ضمن ما يطرح في الأوساط التي تتنافس مع بعضها البعض، وهناك فرق دقيق بين النظرة إلى الإسلام على أنه دين شامل لا تنفصل عنه السياسة والاقتصاد و الاجتماع وبين التعامل بالإسلام في ميدان التنافسات السياسية التي تحول الإسلام – والإسلام بريء من هذا الأمر- إلى مؤشر تنافسي.
التيارات السياسية المختلفة معنية بالاتصال بالداعية، والداعية معني بإيصال نور الإسلام إليهم ونور الدعوة إلى المسلمين منهم، وبالتالي إذا أصبح منافساً لهم في مضمار السباق على الكراسي وعلى الحكم وما يتعلق بسبل الوصول إليه فسيحول ذلك التنافس بين شريحة كبيرة من السياسيين وبين أن يأخذوا نصيبهم من الدعوة إلى الله تعالى.

إجابتك شملت إجابة ضمنية عن سؤال قادم وهو: بلغة علم المنطق لدي مقدمتان ونتيجة قد تبدو تبسيطية ولكني قصدتها حتى أستطيع أن أغور في ذاتك باستكشاف تربيتك الشخصية:
المقدمة الأولى: تقول أن الجفري الأب سياسي مخضرم.
المقدمة الثانية: تقول أن الجفري الإبن داعية إسلامي معروف
النتيجة المفترضة: أن تمتزج السياسة بالدين لصنع داعية ديني سياسي على نمط الترابي أو أردوغان أو الزنداني… ولكن النتيجة المحققة واقعاً فيك مختلفة لماذا؟

أولاً مع احترامي للأشخاص الذين ذكرتهم وتقديري للدور الذي يقوم به بعضهم، إلا أن الشيء الذي رأيناه من خلال التجربة ومن خلال تاريخنا، أن الداعية الذي ينأى بنفسه عن دخول معترك السياسة تتسع دائرة نفعه في الميدان السياسي أكثر من الداعية الذي يخوض في السياسة. ولا يعني ذلك أنني أدعو إلى أن ينقطع الداعية عن فهم السياسة، إذ عليه أن يفهم السياسة والاقتصاد والاجتماع ويفهم شؤون الحياة المختلفة ليتخاطب مع الناس كجزء منهم لا منفصلاً عن حياتهم ولا منازعاً لهم فيها.
وهذا ما لمسته فوجدت مما يأتيني من مكالمات وفي المناسبات المختلفة عندما نجتمع بأطراف مختلفة إلى حد التناقض في ميدان السياسية، ونجد أنهم مجتمعون معنا على الاستماع للهدي النبوي الشريف، وعلى الاستماع إلى ما يرقي أخلاق الإنسان ومعاملاته مع الله عز وجل، وتصحيح حاله مع الحق وإلى ما يشوقه إلى الله تعالى.
هذه الأمور إذا صدقنا مع الله كدعاة وكخدم للدعوة في إيصالها إلى نفوس الناس، والسياسيون من ضمن هؤلاء الناس، لكان لها الأثر الكبير في إحداث نقلة في مسلك السياسة اليوم في واقعنا. والدليل على ذلك التاريخ الموجود عندنا في اليمن لا سيما حضرموت، فعندما تنظر ستجد أن القيادات السياسية المختلفة التي كانت في حضرموت مهما كان اختلافها ومهما كان صراعها ستجدها تلتقي عند أهل الدين وعند الدعاة وعند العلماء المربيين و المشايخ الصالحين، وتجد أن الذي يصلح بين المختلفين سياسياً أو اجتماعياً هو هذا الرجل الداعية الذي عندما نأى بنفسه عن أن يكون منازعاً لهم فيما هم فيه، استطاع أن يخاطب هذا وذاك.
وسيدي الوالد جزاه الله خيراً، في البداية كان يطالبني أن أشارك في الميدان السياسي فلما رأى رغبتي في ترك هذا الميدان، ورأيت إصراره على ما يريد، قلت له إن كنت مصراً على أن أخوض ميدان السياسة وحوّلت هذا إلى أمر توجهه إلي، فسأخلع العمامة وأدخل معك ميدان السياسة وأنا غير مستقر، ولكن إذا كنت مطمئناً أن تراني بعمامتي في خدمة الإسلام فاجعلني أخدم الإسلام في السياسة وفي الاقتصاد وفي الاجتماع بعيداً عن المشاركة في العمل السياسي. واقتنع جزاه الله خيراً بذلك ثم شجعني عليه. ‬

إشكالية الاختلافات المذهبية أوصلت الأمة إلى مأزق خطير يظهر في الصراعات العقيمة القائمة حالياً وبالذات بين الفريقين الكبيرين الجامعين السنة والشيعة. وهذه الثغرة استطاع الأعداء أن ينفذوا من خلالها والشواهد عدة في العراق وباكستان وغيرها. فأين تكمن العقدة؟ هل حقاً تكمن في لحظة الظهور التاريخي باعتبار نشأة الخلاف كانت نتيجة لاختلاف مصالح أقاليم أو قوميات؟

أولا المذهبية شيء راقٍ وليست خطأ لأنها مناهج و اجتهادات لفهم الشريعة مستنبطة من الكتاب والسنة من خلال وجود المذاهب بل من خلال اختلاف المذاهب صارت عندنا ثروة تشريعية بسببها صار علماء القانون في العالم الذين يتخصصون في فلسفة صياغة القانون ينظرون إلى التشريع الإسلامي نظرة إكبار وإعجاب من خلال هذا الأمر.
إذن ليس الإشكال في المذاهب ولا في الاختلاف ولا في التاريخ الذي مضى، إنما الإشكال في من يريد أن يستثمر ذلك لمصالح ضيقة أو فردية إما جماعية أو سياسية أو عنصرية وعندما تتحول الاختلافات المذهبية التي هي في حقيقتها تنوع وإثراء للشريعة الإسلامية إلى صدام فهنا الإشكال. لهذا كنا نتكلم في مؤتمرات التقريب التي شاركنا فيها: أن صلتنا بكم يا إخواننا الشيعة ستكون مستقرة ومطمئنة ونريد منكم فقط أمرين:

  • الكف عن جرح مشاعر السنة بالتعدي على الصحابة رضي الله عنهم، نريد أن نسمع فتاوى من المراجع الشيعية أن سب الصحابة غير مقبول.
  • الكف عن أن ينشط كل منّا في ميدان الآخر نشاطاً تبشيرياً كما قال أحد العلماء الشيعة وهو الشيخ محمد مهدي شمس الدين رحمة الله تعالى وهو من العلماء الذين كان لهم دور بارز في محاولات التقريب وهو من المؤسسين لها: إن لكل منا أتباع جهلة كثر محتاجون إلى تعليم؛ فبدلاً من أن أجتهد على جهلة الآخر وأترك جهلتي، والآخر يفعل مثل ذلك ونتصارع فيما بيننا فليجتهد كل منا على من يحتاج إلى تعليم ممن هم أهل مذهبية. كنا نقول إنه إذا وجد هذان الضابطان فإن الإشكالات العاصفة ستستقر.

وفي مؤتمر البحرين للتقريب قلنا لهم :لو درستم التجربة التي عندنا في اليمن على مدى قرون بين الزيدية والشافعية حيث لم يكن بينهما على مدى قرون صراعات مذهبية نعم حصلت صراعات سياسية حول من يحكم، لكن لم يكن بينهما صراع كعلماء أو كدعوة أو كمذهب. وسبب ذلك أن كل منا احترم الآخر، ولم يحاول أي منا أن يحول أتباع المذهب الآخر إلى مذهبه.
وكنا نقول لو روعيت هذه المسألة لرأيت عجباً في الاتساع بين الناس. ورحم الله الإمام أحمد بن حنبل إذ جاء إليه بعض طلابه وقد ألف كتاباً في الاختلاف، نقل فيه أقوال العلماء من مذاهب مختلفة فلما طالعه الإمام أحمد أعجبه الكتاب فسأل مؤلفه ماذا أسميته؟ قال أسميته ’الخلاف‘ فقال الإمام أحمد بل سمّه ’السعة‘، فالاختلاف في أصله سعه.

لماذا لا يعاد النظر في موروثنا المتأصل الذي لا يرى الشيعة في أحسن الأحوال إلا آخراً مختلفاً عنا.. كذلك أثار اهتمامي مصطلح ورد في إجابتك وهو التبشير ألا يوحي ذلك باتساع الهوة بين الفريقين؟

إذا لم نستطع الاتحاد إلا على مقاومة العدو فإن اتحادنا هذا وهم

إذا نظرنا بنظرة التكامل سنقول أنه يؤدي دوراً يمكن أن يعتبر مهماً وإذا نظرنا بنظرة من الذي قام ومن الذي لم يقم يمكن أن تسأل مثل هذا السؤال وسيأتي سؤال آخر هو: أنه إذا لم نستطع أن نتحد إلا على مقاومة العدو فإن اتحادنا هذا وهم، وإذا لم نستطع أن نتحد إلا في واقع وجود عدو مشترك وهو العدو الصهيوني، فلنفترض انتهت الصهيونية أنتقاتل عندئذ مع بعضنا البعض كما حصل مع المجاهدين الأفغان؟ فعندما انتهى عدوهم الذي اتحدوا ضده تبددت وحدتهم وتفرقوا بل وتقاتلوا.

ولا شك أن المقاومة القائمة لها دور في جمع الناس على همّ، لكن هذا الدور لن يستطيع أن يجمع شمل الأمة وسيبقى مرحلياً ما لم يتأصل على أيدي العلماء والدعاة، خذ مثلاً الوضع في العراق، هناك مشاكل مذهبية وتفجيرات قائمة رغم وجود نموذج المقاومة.

الذي نحتاج إليه هو جهود العلماء والدعاة لخلق قاعدة دائمة للاتحاد بين السنة والشيعة، أما إذا ظل اتحادنا مرهوناً بظرف مواجهة عدو، فإنه صورة اتحاد وليس حقيقية اتحاد. وأكرر أنا لا أقلل من الدور الذي يؤديه مثل هذا الأمر، لكن أرى أن هذا جزء إن لم يضف إليه دور العلماء والدعاة والوعاظ والمسؤولين في العالم الإسلامي ودور الإعلاميين والمثقفين والمعلمين… فلن نصل إلى المطلوب.

نحن بحاجة اليوم إلى أن نخرج من مرحلة المقارنة الضدية إلى مرحلة التكامل في العمل، وندرك أن كل من يخلص في عمله بوعي فهو جزء يكمل الآخر الذي تنبني به وحدة الأمة.

قضية الإساءة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم من قبل بعض الصحف الغربية أثارت موجة عارمة من الغضب النبيل. في مثل تلك الحالة هل على العالم والداعية الإسلامي مجاراة الجموع الغاضبة؟ أم أن عليه ترشيد الموقف والتبصير بالسبيل الموائم بين الغضب النبيل والموقف العقلاني المثمر المستمد من الشرع؟

سؤالك يتضمن الجواب، وإن مهمة الذي يوجه الناس والذي حمل ثقل مسؤولية الناس وهو الداعية أو العالم يتحمل توجيه وترشيد الحماس أو ردة الفعل أو الغضب أو الفرح أو أي كان نوع التفاعل الذي يحصل من الناس ومن ذلك ما سألتم عنه فيما يتعلق بالاجتراء على المقام النبوي الشريف على صاحبه أفضل الصلاة والسلام من قبل من فعل ذلك من الدنمرك. المشكلة التي حصلت هو أن الغضب النبيل، وهو عبارة لطيفة أنت ذكرتها، مؤشر يدل على أمرين أحدهما إيجابي والآخر سلبي.

الأول الإيجابي: هو أن الأمة لا تزال حية وأن الحبيب صلى الله عليه وآله وسلم حي في قلوب أمته، وأن السنين التي مضت والظروف التي مرت على الأمة لم تطو ذلك.
والآخر السلبي: هو أن طريقة التعبير عن الغضب النبيل أحياناً لا تكون نبيلة ولكنها في نفس الوقت مفيدة لنا، لأنها مجس ومعيار نعرف به مستوى الأمة اليوم نعرف به ما تحتاج إليه الأمة لترشيدها وتوجيهها.

عندما يبيح المسلم لنفسه أن يخفر ذمة مؤمّن، كأن تكون له سفارة فيحرقها أو يعتدي على بريء فيضربه، لأن أهل بلده صدر منهم كذا أو كذا . هذا يدل على أن هناك حاجة إلى تنبيه الأمة، وأن الغضب ولو كان نبيلاً لا يبرر الخطأ ولا يبرر مخالفة الشريعة.

ألا ترى أن مجاراة الجموع الغاضبة أيسر على العالم أو الداعية لأنها تجعله نجماً شعبياً؟

هو أيسر على الداعية الغافل عن مهمته وعن ثقل أمانته، ومستحيل في حق الداعية الذي يعيش ثقل أمانة الداعية، وان اجتماع الناس عليه مسؤولية سيحاسبه الله تعالى عليه وليس مكسباً ذاتياً. فإن أدى المسؤولية كما ينبغي ستكون مكسباً في الآخرة، وإلا ستكون والعياذ بالله مغرماً في الآخرة.

كنت ضمن الوفد المسافر إلى الدنمرك، فما ثمرة ذلك الحوار؟

الحمد لله الذي أجراه الله في هذا الحوار أكبر مما كنّا نرجوه. أولاً نحن استفدنا بذهابنا إلى هذا الحوار في معرفة أبعاد لم تكن واضحة لنا، الشيء الآخر مد جسور بيننا وبين أناس من المعتدلين. فالمشكلة التي واجهت الكثير من الدعاة فضلاً عن غيرهم هي أن نظرتنا إلى المجتمع الذي فيه من يسيء هي نظرة تعميم على كل المجتمع، وبالتالي فإننا نقدّم المعتدل والحسن الذي يمكن أن يتعامل معنا هدية للمتطرف الآخر نقول خذه لك لا نريده، والآن نحاربكم جميعا. وصناعة الأعداء اليوم للأسف يسير المسلمون فيها سيراً حثيثاً دون تبصر.. للأسف أقول أن المتطرفين عندنا يتخاطبون مع المتطرفين في الغرب. وفي هذه المرحلة وجدنا الصورة تختلف بين من يعتقدون الاعتدال مسلكاً في ديننا وبين من لديهم الاعتدال بحكم الفطرة البشرية الإنسانية من غير المسلمين من المسيحيين ومن الذين لا دين لهم هناك في الغرب؛ والنبي صلى الله عليه وآله وسلم لم ينف الخيرية عمّن لا دين له قال: “الناس معادن كمعادن الذهب والفضة فخيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا” فأثبت وجود خيرية في الجاهلية بوجود أناس لهم مبادئ ويتمسكون بها.

فلما ذهبنا إلى هناك وجدنا هذا جلياً على مستوى الذين كانوا يحاوروننا، منهم رئيس أكبر كنيسة وهي الكنيسة اللوثرية التي تتبعها الملكة وقد صرّح لقناة العربية أن هناك إساءة حصلت للمسلمين ينبغي ألا تتكرر، وقال كلاماً حسناً، ومن الأشياء الطيبة كذلك أن مجلس الشباب الدنمركي وهو يضم 800 ألف شاب وشابة وغالباً يُغذى المجتمع السياسي من هؤلاء. هؤلاء قالوا: إن هناك أشياء كثيرة كانت غائبة اتضحت وأن هناك خطأ حصل ينبغي ألا يتكرر، ونقل ذلك في وسائل الإعلام أيضاً؛ وجدنا حوراً امتد بيننا والشباب المسلم المعتدل هناك.

فهناك منظمة MID للشباب المسلم وهم من الجيل الثاني من الشباب ومن الذين يدخلون الإسلام، وكان من ثمار الصلة التي قامت بيننا أن جاء طلبة منهم إلى حضرموت يدرسون في الدورة الصيفية المقامة الآن في دار المصطفى. ومن الفوائد أيضاً أنه عقدت جولة حوار أخرى في أبوظبي، إلا أنني تعمدت عدم إبرازها بقدر كبير إعلامياً حتى لا ينشغل المحاورون بمحاورة آلة التصوير عن محاورة بعضهم البعض. سافر عدد من الشباب الدنمركي المشارك وهم يبكون ومنهم من قال ما كنا نعرف عن الإسلام ما عرفناه في مثل هذا الحوار. شابة قالت: أول مرة في حياتي أشعر أنني يمكن أن أؤمن بوجود إله.

ومن المفاجآت التي وجدناها عندما ذهبنا إلى الدنمارك أن السائد هناك أن سبب غضب المسلمين من الرسومات هو أن الإسلام ضد الفنون الجميلة ويحرم الرسم. وشائعة أخرى هي أن الإسلام لا يقبل الرأي والرأي الآخر ولا يوجد فيه مجال للتنوع. والحمد لله كان جوابنا واضحاً قلنا لهم: هناك من المستشرقين من تكلم كلاماً أشد من إساءة الرسامات، فما ثار الناس لأنه كان كلاماً في صورة البحث العلمي، خطّأناهم ورددنا عليهم دون ضجة، لكن الرسومات فيها استهزاء وافتراء وسخرية واحتقار، وهذا ما لم يقبل ولهذا أثار المسلمين وليس لأنهم يرفضون النقد وتعدد الرأي. فكان هناك إصغاء لهذا الكلام.

ولما جاؤونا إلى أبوظبي جهزنا معرضاً للفنون الجميلة والتصوير والزخرفة . وكانت هناك شابة فنانة تحسن الفن التشكيلي فرسمت عدد من اللوحات المعبرة تبرز بعض المعاني النبيلة لأحاديث نبوية شريفة كقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: “الظلم ظلمات يوم القيامة” بطريقة المزج بين اللون الأسود والأحمر القاتم لتعطي دلالة على معنى الظلمة. وهذا المعرض بهر الدنمركيين، وعرفوا أن عند المسلمين فنوناً جميلة.

لكن ما الذي جعل بعض الناس لا يتفهمون مثل هذه المنافع للحوار؟ الجواب هو أنهم خلطوا بين الحوار والمفاوضة. فنحن لم نذهب لنفاوض فالذي يذهب ليفاوض يكون معيار النجاح والفشل لمهمته هو أن يحرز نتيجة فعليّه مباشرة و إلا يعد فاشلاً. بينما الحوار شيء آخر إذ هو إزالة حواجز و تجسير هوّات بين مجتمعين.

نحن نعرف على مدى السنين الماضية أن المجتمع الدنمركي بل الاسكندنافي ككل ليس بينه وبين الإسلام عداوة، وأن الشعوب الاسكندنافية وقفت مع المسلمين وقفات قوية إلى جانب القضية الفلسطينية، إلى الحد الذي طالب فيه أحد الوزراء الاسكندنافيين بمقاطعة البضائع الإسرائيلية. إذن لا يوجد إشكال حقيقي بيننا وبينهم يوجد هناك من له مصلحة في افتعال هذا الإشكال فليس من العقل أن نعرض عن الحوار. وحتى لو لم يحقق الله هذه النتائج التي نحمده سبحانه أنه حققها لنا، فمجرد الذهاب إلى الحوار للتوضيح هو فريضة دينية.

والله تعالى أمر نبيين هما موسى وهارون عليهما السلام بقوله: “اذهبا إلى فرعون إنه طغى* فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى”. فجاء التوجيه الإلهي: اذهبا إلى فرعون وهو الذي لم يسب أنبياء فحسب بل ادعى الألوهية ونازع الحق جلّ وعلا في الربوبية، ومع ذلك أمر نبييه أن يذهبا إليه وأن يقولا له قولاً ليناً لطيفاً وقال: “لعله يتذكر أو يخشى” مع أن الحق يعلم أن فرعون لن يتذكر ولن يخشى وبالرغم من ذلك أمرهما بالقول الليّن ليكون منهجاً للناس. والحبيب صلى الله عليه وآله وسلم كان يقول: “خلّوا بيني وبين الناس” “من يجيرني حتى أبلغ كلمة الله”. حتى الحروب التي خاضها كانت لرد الاعتداء أو لرد حجب كلمة الحق عن الناس.
وإذا وجد في الناس من يقول تعالوا اطرحوا ما عندكم أصبح التخاذل عن ذلك تقصيراً كبيراً في حق الدعوة إلى الله.

أسلوبك الدعوي هو امتداد للمدرسة الدعوية الحضرمية التي أوصلت الإسلام إلى بقاع شتى من العالم وإليها يرجع الفضل في إسلام ثلث عدد المسلمين في العالم اليوم.

لا شك أنه إذا كان هناك شيء حسن في الأسلوب الذي يتكلم به المجيب فالأصل هو ثمرة مجالسة مشايخنا وعلمائنا الكبار من حضرموت نفعنا الله تعالى بهم والذي رأيناه فيهم من ثمار الدعوة في أحوالهم مع الله عز وجل وفي أخلاقهم ومعاملتهم للخلق. وأنضج ذلك الاستفادة من عدد كبار دعاة الإسلام مثل الشيخ محمد متولي الشعرواي والشيخ محمد سعيد رمضان البوطي وعدد من المشايخ الكبار. ولكن الأساس كان على يد مشايخنا الكبار هنا أمثال: شيخنا الحبيب عبدالقادر بن أحمد السقاف والحبيب أحمد مشهور الحداد والحبيب إبراهيم بن عقيل بن يحيى والشيخ كرامة سهيل والحبيب عمر بن حفيظ والحبيب أبوبكر المشهور. كذلك أثر الرحلات مع مشايخنا كرحلات الحبيب عمر إلى البلاد التي دخلت الإسلام على أيدي علماء حضرموت دون نزاع وصراع، كما في جنوب شرق آسيا وشرق أفريقيا. فلا شك أن الفضل بتوفيق الله يرجع إلى هذه المدرسة.

الطريقة الدعوية الحضرمية، من أين اكتسبت مزاياها، أليس من الموروث الحضاري المتميز لحضرموت؟

لا شك أنه عمق الإخلاص الذي يجعل صاحبه يتجرد عن حظ نفسه والذي يجعل صاحبه يحمل همّ الدعوة بصدق ليكون حاله مع الدعوة كحال الثكلى التي ذبح وحيدها على حجرها لا كحالة النائحة المستأجرة؛ هذا هو الإخلاص في الدعوة وأيضاً إحياء الخلق النبوي الشريف والشيء الثالث تفعيل ذلك بالصلات بالناس. هذه الأسس الثلاثة إذا خدمت ودرست سيكون نفعها عظيماً، لأنه على أساسها بزغ نور المدرسة الحضرمية في خدمة الإسلام ونشره في أجزاء واسعة من العالم.

تسمية البعض للمدرسة الحضرمية بالمدرسة العلوية يثير حفيظة بقية الفئات مما يجعلها تحت وطأة ردة الفعل الغاضب فتتبنى مواقف خارج قناعتها أو على الأقل تتراخى في نصرتها ولا تسهم بدورها، هل تتفق معي في هذا الطرح؟

لا شك أن هناك فرقاً بين تسمية مدرسة السادة العلويين كمنهج تربوي لها دور كبير كطريقة من طرق التربية والسلوك إلى الله عز وجل وبين تحويل الأمر إلى عنصرية ومكسب فئوي. عندما يكون الكلام عن المدرسة العلوية كمنهج تربوي لن تكون هناك حساسيات في النفوس لأن الكل عندما يدرس التاريخ يعرف دور هذه المدرسة. فالمدرسة الرفاعية والمدرسة القادرية والمدرسة السنوسية ..إلخ ، كانت تسميات راشدة لمدارس تربية في الأمة. لكن تبدأ الحساسيات عندما يحاول بعض أبناء الأسرة العلوية تحويل هذا الأمر إلى مكسب ذاتي أو فئوي أو عنصري. فالناس بشر لهم نفوس وستكون ردة الفعل مذمومة غير مرغوب فيها. ولعلنا إذا سلكنا مسلك الوسط كان تقول مدرسة حضرموت، مدرسة العلويين، وأيضاً هناك مدرسة آل با عباد ومدرسة آل العمودي ومدرسة آل الخطيب ومدرسة آل أبي فضل وغيرها، وهي مدارس لها اعتبارها ودورها فلا نتجاهلها، وهذا شيء حسن لكن لا ينبغي أن يتحول إلى ضدية لكل تسمية وبالتالي محو شيء موجود، أو تعصب للتسمية يحول الأمر من منهج دعوي وهو خدمة الإسلام إلى فئوية بعيدة عن روح الدعوة. أعتقد أنه لا توجد عندنا مشكلة في التسمية. فإذا قيل المدرسة العلوية لا تستطيع أن تنفي عنها صفة أنها حضرمية؛ وإذا قيل المدرسة الحضرمية لا تستطيع أن تنفي عنها صفة العلوية لأن السادة العلوية هم من أبرز من قام بخدمتها. المشكلة ليست في الأسماء بل في كيفية التعامل معها.

المراتبية الاجتماعية القائمة في حضرموت (سادة، مشايخ، قبائل، مساكين، عبيد) هل تمتلك ثمة مشروعية؟ أما آن الأوان لزحزحتها؟

هناك سنة كونية أقامها الله تعالى، وهي أن الناس تتفاوت على المستوى الثقافي، وعلى المستوى الفكري، وعلى المستوى المالي، وعلى المستوى الاجتماعي. هذا الشيء مثمر في الأرض، ويكون محموداً إذا توجه للبناء ويكون مذموماً عندما يتوجه للتفرقة والتعالي والترفع. والتراتُب الاجتماعي موجود في مجتمعنا لا نستطيع نكرانه لرسم صورة رومانسية حالمة، ولكننا لا نستطيع أن نقر بأن يتحول هذا التراتُب إلى عصبية فكل تلك الفئات جزء أساسي من المجتمع لا يمكن الاستغناء عنها وهي جزء من تاريخ البلد وتاريخ الإسلام في البلد.

فلولا أهل القبائل الذين قاموا مع الإمام المهاجر عند وصوله إلى حضرموت لما استطاع أن يمكِّن لأهل السنة في حضرموت، ولولا وجود المزارعين والعمال البسطاء لما استطاع الناس أصلاً أن يعيشوا في البلد فضلاً عن تقدمها.

الإشكال لا يكمن في وجود التراتُب في البلد، بل في التعصب لهذا التراتُب الاجتماعي وفي تحويله إلى مصالح فردية وذاتية أو فئوية. الإشكال يكمن في الخلط بين تناول الشريعة لمثل هذا التراتُب الإجتماعي التكاملي وبين تحويله إلى محاولة لإضفاء شرعية على التعصب للتراتُب الإجتماعي. فالتراتب الإجتماعي ليس خطأ في ذاته، لكن كيفية إدارته هي الخطأ. وقد جاءت الشريعة لتعالج هذا الخطأ الذي يحصل بسبب طغيان النفوس البشرية على بعضها البعض وجعلت الأساس للمنزلة عند الله لا علاقة لها لا بالنسب ولا البلد ولا المال “إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم”.

أنت تحرص على أن تسبق اسمك صفة ( الحبيب) وهي صفة تطلق على طبقة السادة في حضرموت دون غيرهم. هل يمكن تفسير ذلك بأنك تتباهى بانتمائك إلى أعلى الهرم؟

أولاً القول بأني أحرص على اللقب المذكور أظنه غير دقيق، فعندما أُسأل في وسائل الإعلام بِمَ نناديك، أقول نادوني علي. قد يكون الناس في حضرموت قد اعتادوا على مناداة من يشتغل بالعلم والدعوة من أهل البيت بلفظة الحبيب وأصلها من قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: “أحبوا الله لما يغذوكم به من نعمه وأحبوني لحب الله وأحبوا أهل بيتي لحبي”. وهذه تعد ميزة لأهل حضرموت وذلك أنهم عاشوا على محبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته، ولهذا إذا خاطب أحدهم أحداً ممن ينتمي لأهل البيت خاطبهم بالمحبة. فهي ميزة لأهل حضرموت وليست ميزة للسادة منهم فقط.

الشيء الثاني: لما انتقلنا من بلد إلى بلد للدعوة ومن خلال المجالس الدعوية هناك يأتي أناس ليزورونا فيسمعون الناس ينادوننا بهذا اللقب فصاروا ينادوننا هم به. ثم جاءت وسائل الإعلام وسمعت فأخذت به. فهل المطلوب إذا نوديت بهذا أن أمنعه؟! هذا مستغرب. سُئلت أكثر من مرة هذا السؤال.

مرة سأل أحد إخواننا في (الصحوة نت) لماذا تتميز بكلمة حبيب؟ قلت لهم نادوني حبيب، نادوني شيخ، نادوني علي،.. المهم لا تنادوني بغيض، امسحوا كلمة بغيض فيما بيننا البين، ودعونا نحب بعضنا البعض. وكما أننا لا نريد التعصب في مسألة النسب، كذلك لا نريد ما ذكرتَه أنت وسمّيتَه ردة الفعل، فالأمران مرفوضان. فالذي يرفض أن يجيب الناس إلا إذا نودي يا حبيب هذا متعصب، لكن الذي يرفض أن يسمع أن ينادى أحد من أهل البيت (يا حبيب) هذا أيضا مريض متعصب يحتاج إلى معالجة.

تصنّف دار المصطفى أنها أقرب المؤسسات العلمية الدينية للسلطة ما قولك في هذا؟

المشكلة ليست فقط في من يشتري أصوات الناخبين. المشكلة في الذي يبيع أيضاً.

أظنّها لا تحتاج إلى فتوى ولكن لعل سؤال الأخت جاء من حرقة ما نزل بها مما تراه اليوم في واقع الناس. المشكلة ليست فقط في من يشتري. المشكلة في الذي يبيع أيضاً. فكما أننا نتألم وننتقد من يشتري الأصوات، فعلينا أن نلتفت إلى الذي يبيع صوته. ما الذي أوصل الإنسان المسلم الذي يدرك أن الكلمة التي ينطق بها والنظرة التي ينظر بها والأخذ والعطاء الذي يقوم به والإدلاء بالرأي بل بالشهادة إذ إن الانتخابات نوع من الشهادة الكبيرة التي تزكي ويشهد بها الناخب أن من ينتخبه يصلح لأن يقوم بأمر الأمة، ما الذي يجعل المسلم يتردى عن مستوى تحمّل مسؤولية الأمانة أمام الله سبحانه وتعالى وأدائها إلى مستوى أن يجعل الشهادة شيئاً يباع ويشترى. فالمسألة تحتاج إلى نظر من الطرفين

© 2014 TABAH WEBSITE. All rights reserved - Designed by netaq e-solutions